الموازنة دلالة سياسية مالية وليست رقمية

أبرز دليل على تطور الاداء البرلماني هو شكل مناقشة الموازنة العامة للدولة بوصفها سياسة الحكومة المالية لعام كامل والتصويت عليها ليس أمر صرف بقدر ماهو ثقة بسياسة الحكومة التنموية والاقتصادية فوزير المالية ليس محاسبا او امين صندوق والطاقم الاقتصادي هو ضابط الايقاع لدوران عجلة التنمية الى الامام وعكس ذلك سنبقى ندور في خطايا اقتصادية رغم الحديث الايجابي عن انخفاض العجز وارتفاع الموازنة رقميا والفرح بأنها الاعلى في تاريخ المملكة، فليس كل ارتفاع رقمي في الموازنة مؤشر اقتصادي ايجابي او دليل على وصولنا الى مصاف الدول القوية والثرية.

اعتدنا من النواب الافاضل على خطابات مطلبية لمناطقهم الانتخابية اثناء مناقشة الموازنة , يحتاج كل نائب الى موازنة الدولة كاملة لتنفيذ مطالبه , وأخذت نقاشات الموازنة شكلا كوميديا لمسرحية مملة وطويلة , تنتهي عادة بإصدار أمر الصرف انتظارا لمارثون طويل في العام الذي يليه , وينجح وزير المالية عادة في تنميط شكل النقاش سلفا بخطاب الموازنة التقليدي الذي يتحدث عن الانجازات الحكومية ونجاحاتها المالية ومنسوب الصعوبة في تحقيق هذا الانجاز , عارضا ارقام صمّاء تحتمل التأويل كثيرا وتحمل من التهويم اكثر , فالرقم في الموازنة وجهة نظر طرف واحد هو صانع الموازنة .
الموازنة بالمعنى الاقتصادي هي شكل التنمية المتوقع لعام قادم ولها هدف واضح تسعى للوصول اليه واظن ان هدف الدولة بكل اركانها هو التقليل من جيوب الفقر وتشغيل الاردنيين باكبر عدد ممكن ورفع مستوى معيشتهم , ويُقاس نجاحها بقدرتها على توسيع الطبقة الوسطى ورفع بعض منها الى مستوى اعلى من الطبقة الوسطى وانتقال العاطلين عن العمل من متلقي الدعم الى خانة دافعي الضرائب ومناقشة الموازنة يجب ان تكون في هذا المجال وليس في مطالب تغازل الناخبين لابراء ذمة النواب امامهم كما جرت العادة طوال مجالس برلمانية كثيرة وليس المجلس الحالي الذي بالغ اكثر من سابقيه في المطالب.
تقول الموازنة حسب خطابها الذي القاه وزير المالية في المجلس النيابي في شهر تشرين الثاني الماضي ان واردات الدولة المحلية تشكل ما نسبته 91% من نفقاتها الجارية بمعنى اننا امام عجز مقداره 9% لتسيير الاعمال الرسمية ودفع الرواتب وادامة المؤسسات الرسمية فقط , دون مشاريع جديدة ودون تسديد مستحقات سابقة على الحكومة , وسعت الحكومة من خلال اقرار قانون الضريبة الجديد وقانون الاستثمار ايضا الى رفع منسوب الواردات المحلية لتكون مساوية للنفقات الجارية وهذا يعني ببساطة توسيع دائرة المشتغلين لرفع اعداد دافعي الضرائب وهذا مقبول جدا شريطة ان يترافق مع تجويد الية تحصيل الضرائب وتقليل تعداد المتهربين من دفعها مع مرونة في التسويات لتحسين التحصيل علما ان رقم التهرب الضريبي مخيف ويصل الى اكثر من مليار ونصف المليار دينار , كذلك يجب تحسين شروط الاستثمار وتوفير بيئة تشريعية جاذبة تتناسب والبيئة الامنية المستقرة في الاردن وهذا حديث غائب الآن للاسف فحجم الهروب من الاستقرار اعلى من القدوم اليه كما تشير اوراق رسمية لدائرة تشجيع الاستثمار ووزارة الصناعة والتجارة وسوق عمان المالي , ويبقى السؤال هل نجحت الموازنة في تحقيق هذا الهدف ؟
كذلك هل نجحت الحكومة في توسيع رقعة المشتغلين ونقلهم من خانة البطالة الى خانة دافعي الضرائب لتحقيق هدفها الاسمى , حسب الدلالة الرقمية في الموازنة نفسها هذه الغاية مشكوك فيها , فحجم النفقات الرأسمالية التي تعني الانفاق على المشاريع وتوفير فرص عمل للاردنيين نجدها بحدود المليار ونصف , 47% منها من المنحة الخليجية وهي مدرجة منذ العام الماضي و52% منها من الموارد الاردنية وهي ايضا على قوائم العام الماضي اي ان المشاريع الجديدة مرصود لها 64 مليون فقط فهل هذا رقم كافٍ لاحداث تغيير في سوق العمل ؟
نعرف ان الظرف صعب ولذلك نحتاج الى قرارات صعبة ونقاشات عميقة تتجاوز المطالب العدمية للنواب وتشير الى مواطن الاختلال لتحقيق الاصلاح المنشود في الاقتصاد الذي يعاني من اختلالات هيكلية تحتاج الى التفكير خارج الصندوق والعمل الجاد لتحصيل الاموال وفتح افاق الاستثمار بدل اللجوء الى الحلول السهلة برفع الضرائب او توسيع دائرة دافعيها دون تشغيلهم فعلا .