الخروج من جلابيب الأئمة

ما تزال العلوم الاجتماعية في العالم العربي في حالة من التردي التي يصعب معها إحداث التقدم وإيجاد حلول لمشكلاتنا المستعصية. ومن غير الممكن أن نخرج من هذه الحالة، من دون إحداث ثورة في طريقة التفكير والتشخيص والتعبير، مع الأخذ بالاعتبار لعلاقتنا بالماضي، والهجرة إليه بحثا عن إجابات وحلول، كلما واجهتنا محنة أو مشكلة تحتاج منا إلى البحث والتحليل.
في الغرب، حدثت ثورة علمية منذ زمن بعيد، أسهمت في إعمال العقل في قضايا المجتمع من دون وساطة السلف. واستمرت النقاشات وتجددت في ستينيات القرن الماضي، عندما بدأ العلم يواجه العديد من الظواهر التي تحتاج إلى تفسير، والمشكلات والقضايا الاجتماعية التي أطلت برأسها على المجتمعات، ودفعت الساسة والمخططين إلى البحث عن حلول لها. وقد طالت تلك الثورة العلمية الطريقة التي يتناول بها العلم المجتمع وقضاياه، وتناولت العلاقة مع الماضي، وأسهمت في الانتقال من البحث الفلسفي إلى البحث العلمي الموضوعي الموجه من الوصف إلى الفهم والتفسير والتحليل، بأدوات علمية تبتعد عن البنى والقوالب الجاهزة التي بقيت العلوم والظواهر الاجتماعية أسيرة لها لفترات طويلة.
في جامعة شيكاغو وجنوب كاليفورنيا وفيلادلفيا، والعديد من الجامعات الأميركية الأخرى التي فتحت أبوابها على مجتمعاتها المحلية للتعاطي مع مشكلات الجريمة المتزايدة، والفقر والتمييز العنصري والمخدرات والعصابات، أدرك الكثير من الأساتذة الحاجة إلى أن يحدّث علم الاجتماع أدواته ونماذجه التفسيرية. واقترح البعض أن يتوقف العلم عن الدوران في فلك الرواد المؤسسين (إميل دوركايم، وأوغست كونت، وباريتو، وغيرهم)، وأن يتجه نحو نماذج تفسيرية سببية، مثل التي تستخدمها العلوم الأخرى. وكان من بين المتحمسين لفكرة القطع مع الماضي باربرا بورمان، أستاذة تاريخ النظرية الاجتماعية، التي رأت أن الاستمرار في إقحام نظريات المؤسسين للعلم لا يخدم العلم وأهداف تقدمه وتفعيل أدواره في خدمة المعرفة وتعميق الفهم. وقد جاء في أحد طروحاتها: "إذا أراد علم الاجتماع أن يتقدم، فلا بد له من أن يخرج من عباءة المؤسسين".
ومع أن الثورة العلمية بدأت منذ زمن، إلا أن الجدل الدائر بين دعاة القطيعة مع الماضي وأنصار الالتزام بالأسس التي وضعها الرواد، كان صادما للبعض منا، خصوصا أننا لم نعتد هذا القدر من حرية الفكر والنقد. فقد نشأنا في عالم لا يرى حكمة إلا فيما يقوله الشيوخ والأوائل.
بعد أن عدنا من لوس أنجلوس؛ بلاد التجديد والتقليعات وصناعة الفن والشهرة والثراء... كان علينا أن نعيد برمجة أنفسنا للعيش في الثقافة التي تصرف غالبية وقتها في استذكار الماضي، في مناسبات تعتبر التراث مقدسا؛ وتمضي جل الوقت في استذكار تفاصيله من خلال المجالس والدروس و"التعاليل". إذ يحرص المجتمع على إحياء الماضي واستذكاره عند كل منعطف، وتطلق على الأحاديث "السوالف" (تُعنى بما قام به السلف، أو ما حدث في سالف الزمان).
خلال الأيام الماضية، وفي تفاعل مجتمعنا غير المسبوق مع جريمة قتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة، برز جيل من المحللين للظاهرة الجديدة التي استحوذت على اهتمام العالم بكل أطيافه، وانهالت المحطات التلفزيونية والإذاعية بالأسئلة على الدارسين والخبراء، ليقولوا لنا شيئا يفيدنا عن الذي يحدث إلى الشمال الشرقي من ديارنا. فجاءت الإجابات والتحليلات مخيبة للآمال، وظهر المختصون واحدا تلو الآخر ليقولوا أشياء لا تمت إلى التحليل بصلة. فغالبية الذين تصدوا للموضوع تحدثوا عن مشاعرهم وانطباعاتهم، واعتبروها مناسبة لإظهار وطنيتهم وتعاطفهم. وقلة من الضيوف كنت تشعر معها أنك تستمع إلى من يقرأ نصا من كتاب كلاسيكي، فيه أسماء ومقولات ومسوغات لا علاقة مباشرة لها بما يدور حولنا. والكثير من جيل الشباب الذين استهواهم التحليل هذه الأيام لبسوا أثواب المشايخ، وأخذوا يتلون علينا الأحاديث والفتاوى؛ فيجرمون هذا ويبرئون ذاك. وبعضهم استرسل في عرض تاريخي حول كيف ظهرت الجماعات ومرجعياتها، وكأننا في مساق للتاريخ. وغالبية الضيوف أشاروا إلى أن الاصولية تستقي فكرها ووجودها من ابن تيمية باعتباره صاحب منهج إصلاحي قبل قرون، في عهد تدهورت فيه أوضاع الأمة وهانت على خصومها، في حين تناول البعض المجموعات التي شكلت الظاهرة من دون بيان مساهمة كل منها في بنية تنظيم "داعش" وأيديولوجيته ونشاطاته؛ فتحدثوا عن حزب البعث والجيش المنحل والحركة النقشبندية (نسبة الى النقشبندي). وبعض ما قيل لا يستحق الوقت الذي خصص له.
في بلادنا، ما يزال العقل معطلا، والثقافة غير قادرة على أن تخلّص نفسها من قدسية الماضي، وكل اجتهاداتنا محصورة في فن النقل. فالمحللون يتبارون في تسميع الآراء الفقهية، وشرح ما قاله فلان وما افتى به علان، في تجاهل واضح للعقل بصفته أداة منتجة للمعرفة. وعلى صعيد المنهج وتوظيف العلم في خدمة المجتمع، ما تزال غالبية باحثينا وخبرائنا في جلابيب الشيوخ والمفسرين والفقهاء الذين عاشوا قبل مئات السنين، فلم يجرؤ أحد على تقديم نظرية لتفسير هذا الواقع. لكن استمرار النظر إلى سيدنا الشيخ الفلاني، والإمام العلاني، وما قالاه عن ظواهر عايشاها، وإسقاطها على الوضع الراهن، فيه شيء من امتهان العقل وتعطيل لوظائفه في الفهم والتحليل والتقييم والحُكم، وتجاهل لعوامل كثيرة وتغيرات لا حصر لمداها وحدودها. والأصولية التحليلية تطرف وتضليل. فالظواهر الاجتماعية والسياسية ينبغي تناولها بمنهجية موضوعية تنتمي لهذا الزمان، وليس بمقولات الشيوخ والأئمة.
العيش في جلباب الآباء يعني الرفض لمعطيات الحاضر وخبايا المستقبل؛ يعني التحجر والفناء. والأمم تتقدم لأن إنسانها أهم من الفكرة، وحاضرها أهم من الماضي، والمستقبل يحتاج إلى تفكير أبعد من الوصفات الموروثة والمقولات الجاهزة.