تحت غطاء

 

 

جاء الأميركيون إلى العراق عام 2003 غزاة محتلين, تحت هذه الذريعة أو تلك ,ثم ما لبثت ذرائعهم في الإرهاب والقاعدة وسلاح التدمير الشامل أن سقطت واحدة تلو الأخرى ,

حينئذ انداروا إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان ذريعة جديدة ومغرية وغير قابلة للمساءلة واللوم , خاصة وأنهم « الطيبون الرحماء « الذين هالهم ألا يمارس العراقي حريته في اختيار نظامه السياسي وقيادته , وألا ينقلوه بطرفة عين إلى معارج الحرية والرفاه والشفافية , فجلبوا الصناديق والحبر والأوراق والجداول ودعوا العراقيين للاصطفاف والانتخاب بحرية ما بعدها حرية , ليكتشفوا فيما بعد أن الاصطفافات كانت طائفية وإثنية وعشائرية فقط , ومثلها الصناديق والأحبار والأوراق والجداول .. وبالطبع الفائزون والخاسرون والمجالس والوزارات وغيرها مما أنتجته الانتخابات , وأن هذه الاصطفافات هي أبعد ما تكون عن العلمنة والمواطنة التي بدورها أقرب ما تكون إلى الديمقراطية !‏‏

في بلد عربي آخر , ودون أن يأتي الأميركيون أو يذهبوا , تقوم ديمقراطية شبه مطابقة لديمقراطية العراق , تقوم على المحاصصة والمذهبية والطائفية والعائلية, ولكل منها صحافتها وشاشاتها ومتحذلقوها , ويحتشد الناس فيه بمهرجانات ملونة ومطرزة ومنمنمة , وأيضا يطالبون بإسقاط الحكومة القائمة أو حتى التي ستقوم أو أي حكومة يشير إليها زعيم الطائفة أو القبيلة أو العائلة , يتوهمون أنهم في سويسرا أو البنلوكس , يقلدون .. يمثلون أي كومبارس يمكن حشده لالتقاط الصور وتزيين الشاشات , يهتفون بما لا يريدون فعلا , ويرفعون صورا لقادة وزعماء دول أخرى سهوا أو عمدا .. لإثارة الضحك والسخرية أو لإثارة الطائفة والعائلة والمذهب لا فرق , لكنهم عند صناديق الانتخابات يصطفون أيضا طوائف ومذاهب وعائلات , ومع ذلك يتحدثون عن الديمقراطية والليبرالية وحتى النيوليبرالية , ويردد خطباؤهم ومتحذلقوهم من المفاهيم والمصطلحات والتفسيرات في الديمقراطية ما يعجز عن فهمه وشرحه خطباء الغرب وفلاسفته مجتمعين !‏‏

واليوم في أكثر من شارع وبلد عربي آخر , يحتشد الناس طوائف وقبائل وأعراق , الكل يريد الديمقراطية ويبحث عنها , في الشوارع والأزقة .. في التمرد على النظام القائم وكل نظام سيقوم .. في العصيان .. في الشعارات والمفردات وقواميس القطيع وأدبياته وأنماطه السلوكية .. في الفوضى والتخريب .. وفي اصطفافات الطائفة والقبيلة والعرق ذاتها , وستأخذهم الدهشة والذهول غدا , وربما الغضب أيضا , حين لن يجدوها حيث يبحثون عنها ولو قلبوا الأرض رأسا على عقب .. ولو أحضروا كل مراسم الديمقراطية واحتفالياتها وأدواتها وطقوسها وشاشاتها وعدساتها وفرق الردح السياسي المنضوية تحت لوائها ! وستأخذهم الدهشة والذهول أكثر وأكثر حين يعلمون أن الديمقراطية ليست مخبوءة في أي مكان ولا هي متخفية عن أحد , بل هي اختزال لأفكار وعقائد وممارسات فوق طائفية وقبلية وعائلية وعرقية وغيرها , وأنها تجربة اجتماعية ثقافية تاريخية , يفترض أن تقوم وتبنى في أدمغتهم أولا , وخلف حدقات عيونهم مباشرة , وإلى أن يأتي ذلك الحين لا أدري من سيسخر من الديمقراطية ومن سيبكي عليها .. الغرب الذي ابتدعها وعاشها وجربها , ثم فخخها وأرسلها لتنفجر بيننا لا لتقوم في رؤوسنا , أم الشرق الذي عجز عن استنباتها في ليلة وضحاها , فراح يتهم التربة مرة والمناخ مرة ثانية وغيث السماء مرة ثالثة ؟‏‏

 

pressziad@yahoo.com