ما وراء "الدولة الإجرامية"

سواء صدّق بعضنا أم لا أن جماعات القتل التي تتسمى بالإسلام وتنسب نفسها إليه، وآخرها تنظيم الدولة الإجرامية التي تسمي نفسها "إسلامية"، تؤمن حقاً بما تقول عن "إسلاميتها"، أو أنها تتستر بها وحسب، فإن ما يجب تكرار التنبيه إليه، أن ثمة خللاً حضارياً في علاقة المسلمين بالإسلام، هو الذي أتاح -منذ أربعين سنة على الأقل- لمجرمين أن يسموا أنفسهم "إسلاميين"، ثم أتاح لهم أن يجدوا بين المسلمين من يصدقهم.
لقد أخفق مشروع النهضة العربية المستند على المرجعية الإسلامية، الذي انطلق قبل نحو قرن ونصف القرن من الزمان مع الأفغاني، ثم أخذ تعبيرات سياسية وفكرية متعددة منذ حسن البنا، وصولاً إلى الجماعات "الإسلامية" المتأخرة. إن فشل جميع المشاريع الفكرية التي عرفها العالم العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر (الإسلامية وغير الإسلامية)، مرده إقامة تلك المشاريع، ومن ثم إقامة تطبيقاتها السياسية والاجتماعية، على قاعدة "النموذج"؛ بمعنى أنها تتخذ نموذجاً تقلّده وتعتبره مثلاً أعلى، طبّقه ونجح فيه أناس آخرون غير العرب، وذلك بدل أن تبتكر تلك المشاريع بنفسها برنامجها الجديد، المشتق من الفكرة الأصلية، كما جرى عند مختلف الأمم الأخرى التي نهضت وتقدمت، ومثالها أمم شرق آسيا.
"النموذج" الذي اتخذه المشروع النهضوي الإسلامي مثلاً وقدوة، هو "النموذج الماضوي"، الذي عبّر عنه المنظّرون الروّاد بقولهم إن نهضة الأمة رهن بعودتها إلى "فهم السلف". ما يدل على أن المشروع النهضوي الإسلامي المعاصر ليس قائماً في جوهره على اشتقاق برنامج سياسي واجتماعي معاصر من القرآن، بل على تقليد نموذج السلف، باعتباره التطبيق المثالي والوحيد والنهائي للإسلام، الذي يضمن نهضة الأمة اليوم، تماماً كما ضمن نهضة أسلافنا قبل قرون طويلة.
مضامين هذا النموذج الماضوي، الذي تختزنه الذاكرة الجمعية للمسلمين المعاصرين باعتباره الإسلام الصحيح، تتمثل سياسياً في نظام الحكم الذي يطابق الخلافة الراشدة، أو ما يظن المسلمون أنه الخلافة الراشدة، وتتمثل اجتماعياً في مجتمع الصحابة المتحاب المتراحم في زمن الرسول والخلافة الراشدة قبل وقوع "الخلاف". ولهذا، فإن بعض المسلمين المعاصرين يقفون عند القيم السلوكية التي كانت لدى الصحابة باعتبارها نموذجهم المراد، ومنهم من يعتبر طريقة لباس الصحابة وأسماءهم والمصطلحات التي استعملوها في تخاطبهم جزءاً من ذلك النموذج، فينظر إليها باعتبارها ملابس إسلامية، أسماء إسلامية.. إلخ، لا تاريخية. أما المضامين الفكرية للنموذج الماضوي، فتتمثل في الفقه الذي دوّنه التابعون وتابعوهم، مشتقاً من معاصرتهم للصحابة وتلقيهم "الفهم" عنهم، وكذلك العلوم التي تركوها، كعلوم القرآن والتفسير والسُنّة والحديث. وما يمكن ملاحظته هنا، أن عدداً من الفقهاء والدعاة الذين ظهروا في القرون التالية للثالث الهجري، وأخذوا على عاتقهم السعي للعودة إلى "فهم السلف"، ومن أمثلتهم ابن تيمية وابن القيم والعز بن عبدالسلام، يُنظر إلى آثارهم الفكرية أيضاً باعتبارها جزءاً من ذلك "النموذج"، كونها مبنيّة هي الأخرى على "فهم السلف" وعلى الدعوة للعودة إليه.
الفهم الماضوي أورث خللاً في علاقة المسلمين بالإسلام، لأنه دفعهم لاعتباره الماضي الذي يتوجب إعادة إقامته في حاضرهم، حتى باتوا يعيشون الحاضر بأجسادهم والماضي بأرواحهم وتفكيرهم، ما جعلهم مفصولين عن واقعهم وغير قادرين على التأثير فيه، فضلاً عن كونهم عالة على أسلافهم وإبداعهم الذي كان يناسب زمانهم، لكنه بالضرورة غير مناسب للزمان الراهن الذي ظهرت فيه دولة المواطنة وقيم التعددية في المجتمع، وبات أمام الفكر الإسلامي أدوات تحليل جديدة وحقائق أكثر اتساعاً.
لو أدركنا الفرق بين الماضي والحاضر في تفكيرنا الديني، لما أمكن لأدعياء مجرمين، خارجين عن العصر، أن يدّعوا الانتساب إلى الإسلام.