معاذ.. الجندي والقضية

أخبار  البلد - علاء الدين ابو زينة

لم يكن استشهاد الطيار معاذ الكساسبة مسألة تخص عائلته القريبة وعشيرته. كان استشهاده بهذه الكيفية المؤلمة مصاباً ألمّ بكل بيت أردني. وقد أعرب الأردنيون بوضوح عن هذه المشاعر طوال فترة أسره، وبعد إعلان استشهاده؛ في الأحاديث اليومية، والمسيرات التضامنية، والمطالبة ببذل أي شيء وكل شيء من أجل استعادته حياً، وفي الشعار الذي تبنوه "كلنا معاذ". لكن معاذ كان جندياً، ومهمة الجندي هي أن يكون في طليعة الاشتباك عندما يدعوه الواجب، وأول من يواجه احتمال الشهادة دفاعاً عن أهله ومواطنيه.
الخسارة بفقدانه لا تعوض. أولاً، لأن كل روح إنسانية غالية، ولا يماثلها شيء. وثانياً، لأن الشهيد أصبح رمزاً لاشتباك الأردنيين مع قوى الظلام والتطرف. وقد أراد مختطفوه الوحشيون أن يستخدموه في محاولة شق الصف الأردني، لكن يتبين أن الأردنيين قد يختلفون على كثير من الأشياء، إلا أنهم لن يختلفوا على المعسكر الذي يختارونه أخيراً في الصراع بين نهج الحياة الحر والتقدمي، وبين أيديولوجيا تعتنق القتل والإقصاء والتجهيل. بذلك، لم يعد معاذ الكساسبة أردنياً وجندياً فقط، وإنما أصبح قضية وطنية.
يعرف الأردنيون أن الحياة أقوى دائماً من الموت -حتى أن الشهادة نفسها في وعينا الجمعي هي وسيلة للحياة وليست غاية في ذاتها. ولذلك، سوف يتجاوز الأردنيون أحزانهم، وسيبحثون عن وسيلة عملية للتعبير عن وفائهم لفقيدهم، بحمل القضية التي قاتل واستشهد لأجلها: أن يكون الأردن حراً وتقدمياً وآمناً، ومتطلعاً إلى البناء.
إذا كان ثمة شيء يمكن أن ينطوي على إيجابية في التجارب المؤلمة، ويقدم درساً، فهو أن الأردنيين قابلون للتعبئة والتحشيد وراء القضايا الكبيرة التي يرون أنها تؤثر على الجميع وتشرك الجميع. وإذا كانت قد جمعتهم هذه المرة قضية مريرة جعلتهم يختارون الجانب الذي ينبغي أن ينحازوا إليه، فإن من الممكن أن تجمعهم أيضاً قضايا إيجابية كبيرة. ولعل العنوان البارز لقضية الأردنيين هو مراجعة العلاقة بين الإرهاب وبين العوامل التي تصنعه أو تلغيه من الحياة الأردنية. وينبغي الاسترشاد بالفكرة الداعمة لذاتها، والتي تحيل تنامي اتجاهات التطرف إلى مشاعر اليأس والإحباط التي يمكن أن تدفع الشباب إلى أحضان المتشددين، ومسببات هذه المشاعر.
قضية الأردن، التي اتضحت أكثر بعد استشهاد معاذ، هي أن يتغلب على أسباب تشتت الذهن الجمعي، وأن يحشد مواطنيه حول مشروعات تنطوي على الأمل وتعد بالإشراق. وسيبدأ ذلك دائماً من المجالات الحيوية التي يتحرك فيها المواطنون: الاقتصاد، والتعليم، والفكر الحر، وثقافة الحوار، والفرصة. وكما هو معروف، سوف يكون أي قرار وطني أكثر حرية، كلما كان أكثر اعتماداً على ذاته وموارده في العيش والحراك. وسوف تتسع الخيارات تبعاً لذلك، وإمكانية تقرير الانحيازات والرؤية الخاصة. وسيتطلب قطع مسافة في هذا السبيل الكف عن التعثر، ومتابعة مشاريع تنموية استراتيجية بنفس طويل، وتطبيق الاقتراحات الكفيلة بتحرير الاقتصاد الأردني من التبعية.
في مجال التعليم، ينبغي التخلص من الخوف من التجريب في الأفكار والمناهج الجديدة. وفي نهاية المطاف، لن يكون هناك بديل عن مساعدة تحرير العقل، وتعليمه منهجية النقد والتفكيك والتركيب، لكي يستطيع اقتراح الأفكار في المجالات كافة التي تعاني عوَزاً في هذا العقل. ويجب أن لا يتدخل الخجل وكثرة الحسابات، لإعاقة تحييد الأشخاص الذين يكشفون عن تعصب أو انغلاق عن مراكز القرار في المؤسسة التعليمية. وسيكون العمل المنهجي الجريء على تغيير ما أصبح مسلمات تربوية، كفيلاً بإنتاج جيل قادر على التمييز بين المنطقي والمسرف، وغير معجب بالنظرات الضيقة العمياء التي تعبر عن نفسها في شكل أيديولوجيا التطرف والإقصاء.
سيكون من الطبيعي أن تتزامن هذه الاقتراحات مع تحرير التعبير، وإتاحة النقد العلمي غير المتعصب، وتسهيل الانفتاح على أفكار الأردنيين، شريطة محاصرة الأفكار العدوانية التي ترفض الآخر. وينبغي أن تتكفل الآليات الصحيحة بعزل أصحاب الاتجاهات الإقصائية الذين يميزون أنفسهم بأشكال ورموز، ويطرحون أفكاراً منفرة لا تخدم العيش في العالَم. وستكون هذه المحاور هي قضية الأردنيين على الجبهة الداخلية، وحصتهم الأساسية في محاربة التطرف وأسبابه، بحيث لا نخسر المزيد من شبابنا لمصلحة المتطرفين أو في الصراع ضدهم. ولعل في ذلك وفاء لروح الشهيد معاذ الكساسبة.