الثقافة كقوة ناعمة
ثمة قوتان تدافعان عن الأوطان وتقتحمان الشعوب، الأولى تلك الخشنة المتمثلة بالجيش وقوى الأمن والشرطة والدرك والاستخبارات، وسبيلها -اضطراراً أو عدواناً- المواجهة والاقتحام والحروب والاعتقال والقتال واستخدام العنف لصد العنف، إلى آخره، مما تشهده الساحة العربية اليوم. وهذا الخيار في الأمم العفيّة يُتّخذ عند الضرورة، مراعية أن لا يتجاوز العنف حدّه المسموح به في الشرائع والقوانين وحقوق الإنسان.
أما القوى الناعمة، فتلك التي لا تستعمل العنف ولا السلاح، بل تُشهر قلماً أو لوحة أو تمثالاً أو فيلماً سينمائيّاً أو مسرحية أو مؤتمراً أو ملتقى تربوياً أو فنيّاً، أو مطعماً يروّج انتشاره إلى تقبّل هويّة! إنّها قوى تخطّط لتغيير مجتمع باقتحام جذر شعوره وتفكيره، دون أن يشعر، أو تنوي أن تُمهّد لتحويله من أيديولوجيا إلى أخرى، أو قبول موقف سياسيّ دون آخر. إنها لا تحارب بالقوس والنشّاب، ولا بالمدفع الهاون والطيارة من دون طيار، بل بألطف الأدوات، فلا دماء تسيل، ولا رؤوس تتطاير. ومن خاصياتها أنها تتسلّل تسلّلاً إلى النفس البشرية بحبّ أشياء وكره أشياء، وإلى العقل البشريّ باتخاذ أفكار دون أفكار. ففيلمٌ معدّ بمهارة يحقق من الانتصارات ما يتفوّق على جيش جرار.
فإذا أردتَ أن تحتل بلداً فليس عليك أن ترسل إليها قوى خشنة تسحقها وتُحكم السيطرة عليها، وتكلفك المليارات، بل وجّه إليها الثقافة وأدواتها، فتحتلّها من دون قتال. وإذا أردتَ أن تحوّل شعبك من الاشتراكيّة إلى الرأسماليّة فليس عليك سوى أن تطلق قوى الفنون الناعمة والنشاط السلميّ الذي يُزيّن اقتصاد السوق، ويُمجّد حرياته.
وإذا كنتَ في بلد مثل بلدنا، تحتاج إلى أن تجنّب شعبك العنف والانسياق وراءه، والآيديولوجيات المشبوهة التي تريد اقتحام العالم ونشر الهمجيّة منسوبة إلى الدين، فما عليك سوى أن تلجأ وتنفق وتتوسّع في الإنفاق على القوى الناعمة التي لا تفكّر بعدد الضحايا بل بعدد المستفيدين، وليست المعركة عندها بين قوة أقوى وقوة أضعف، بل بين العلم والجهل، والأميّة وقراءة التاريخ، وبين التحضّر والبداوة الفكريّة، وبين السلوك الإنسانيّ وذاك الهمجيّ. بل أفئدةٌ يملأها التسامح والخير بعد أن ملأها الحقد والظلام. إنها قوى تحملُ في أصلها مبدأ السلم في نشر الفكرة والدفاع عنها وتسويغها. إنها قوى ذكيّة تمخر الوجدان فتصطفيه لفكرة السلم -إن شئت- أو للحرب؛ وهو ما عكف عليه طوال عقود المتأسلمون في الوطن وعلى كوكب الأرض، حارفين أدبياتهم إلى الكراهية وتزيين العنف تحت مسميات شتى كالجهاد (فكان الجهاد ضد أبناء الوطن الواحد والملّة الواحدة!)، وترويع السلام الأهلي، بل البشرية جمعاء!
فإذا كانت الثقافة على هذا القدر البليغ من التأثير والفاعليّة، لم لا تفكّر وزارتها لدينا في اقتحام بؤر الفقر والأقل حظاً بمراكز ومجمّعات تقدّم للأطفال وللشباب ما يملأ العقول والقلوب بالمعنى بدل تركهم أهدافاً سهلة للدواعش ينادونهم إلى "الشهادة" الخادعة والمصير المظلم؟ ولم لا تستثمر الحكومة في الثقافة إلى جانب استثمارها في الأمن، الذي لا أناقش ضرورته الراهنة؟
ألا إن الأخطار لا تنتظر، وإنّنا في المحاق، وما من بادرة ضوء في غير اقتحام البيئة الحاضنة للإرهاب، وتجنيدها لحبّ الحياة والنشاط السلميّ، وكيف يكون ذلك من دون أخطر الأسلحة قاطبة: الثقافة؟
دعونا لا نفقد الأمل...!