الأيديولوجيا العربية المعاصرة
فقد جرت عادة المؤرخين، من أيام المفكر المصري الماركسي سابقاً والإسلاموي لاحقاً، وهو محمد عمارة، على الإنطلاق من حقبة محمد علي باشا وعصر " تلخيص باريز" للطهطاوي، وجرى تداول ذلك المنهج من قبل عديد من المؤرخين مثل الدكتور فاروق أبو زيد، الذي يُعد أول من أستخدم مصطلح "العقل العربي" في كتابه "عصر التنوير" ، وليس كما ظن جورج طرابيشي في كتابه "نقد نقد العقل العربي: الجزء الأول" من أن زكي نجيب محمود هو أول من أستخدم هذا المصطلح في مقال له في مجلة الأهرام عام 1978م، سماها " العقل العربي يتدهور" ومن ثم رد عليه المفكر أحمد موسى سالم في كتاب كامل سماه " العقل العربي"، وبغض النظر عن إشكالية التأريخ للمصطلح فلقد كان فاروق أبو زيد ، ورغم أنه لم يحظى بالشهرة الواسعة على غرار زكي نجيب محمود وغيره من المفكرين، سباقاً في نحت بعض المصطلحات، وكان يسير في طريقة مشابهة لطريقة محمد عمارة في التأريخ للأيدولوجيا العربية من منطلق الحديث عن الطهطاوي ورشيد رضا ، الذي ترجم انجيل برنابا، ومحمد عبده، وغيرهم.
تلك الطريقة بالتأريخ تسير من منطلق هيغلي – وإن لم يعبر هؤلاء عن هذا المنطلق مباشرة، من خلال النظر إلى أحداث التاريخ وكأنها تسير بإطراد نحو نقطة معينة، وكان المفكر اللبناني أبراهيم العريس، يسير على نفس المنهج، فقد ألف كتاباً عام 2010م، سماه " وجوه من زمن النهضة" ، تحدث فيه عن تلك الرموز التي شكلت معالم الفكر المعاصر، ومع ما يحتويه الكتاب من أخطاء نحوية وقواعدية، فإنه مليء بالمهاترات والتجذيف أحياناً بالفكر العربي الوسيط.
إن قراءة زمن النهضة العربية يُصور في الخطاب الإيديولوجي العربي على أنه فتح جديد ، فهنالك أزمة في المعنى ، لهذا نرى العديد من الكتب التي تحملُ عنواناً " قراءة جديدة " أو إعادة قراءة زمن النهضة ، وكل مُحاولة "كولومبسية" من هذه المحاولات تُصور أن النهضة العربية لم تُقرأ كاملة ، وأن الكشف الجديد هو القراءة الصراطية اليتيمة لسرديات النهضة الكبرى.
وينبثق منهج طرابيشي ومحمد أركون من محاولة أخرى لتأويل العقل العربي ترجع به إلى عصور التدوين الأولى ، وذلك طبقاً لمنهجية فرناند بروديل ومارك بلوخ ولوسيان فيفر ، ومدرسة الحوليات الفرنسية ، التي تقسم التاريخ إلى تاريخ قصير وآخر طويل .
*****
ولعل مشروع الأنسنة الذي ينطلق منه المفكر الجزائري محمد أركون، الذي يدرس الفكر الإسلامي في جامعة السوربون منذ ربع قرن ونيف، هو وحيد في مضماره، فرغم محاولات الدكتور حازم خيري ، في كتبه عن الأنسنة العربية والأوروبية، إلا أنه بقي أسيراً للرؤية اليسارية التي كانت تجتاح الوطن العربي قبل نصف قرن، ومحمد أركون في كتابه "نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي" ، يتحدث أكثر ما يتحدث عن مفكري القرن الثاني والثالث والرابع للهجرة، ويخص أبو حيان التوحيدي، ببحث يبين فيه مدى قدرة الفكر الإسلاموي على التلاقح مع المشرق الهندي الصيني ، والمغرب اليوناني – الروماني، ومن ثم الفارسي الزرداشتي والصوفي، ولقد كانت كتب مثل "مفتاح العلوم" للخوارزمي ، هي المنهج الديكارتي السباق لديكارت نفسه.
لقد ساهم محمد أركون في بلورة رؤية أبستمولوجية للفكر العالمي، وذلك عبر تبنيه لمصطلح " العقل الإسلامي" ولقد ألف كتاباً سماه بهذا الإسم ، وتلاه محاولته لتطبيق المناهج السيميائية واللسانية والأنثروبولوجية، على الفكر العربي الوسيط، وإنطلق في جدال مع الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، إلى أن تمرد على منهجه الفيلولوجي العقيم.
ولا أخفي القارىء بأن قراءة محمد أركون تعتبر ناقصة إذا لم يتلوها قراءة المناهج التي يتبناها من سيميائية وهيرمونطيقية، وهذه مناهج فلسفية وفكرية لم يترجم منها إلا النزر اليسير، فلا يوجد ولا كتاب واحد مثلاً ، عن الفيلولوجيا، ومع هذا قد تم ترجمة عدد من النصوص المؤسسة للمنهج السيميائي والألسني، مع أن الذي قاد إلى تلك المناهج، هو المنهج الفيلولوجي ، والذي كانت مجلة الدراسات الأميركية الألمانية اللغوية، تتولى نشر معظم الأبحاث المختصة بهذا المجال.
وبالنسبة إلى جورج طرابيشي، فإنه يقف في منطقة حرجة، فعلى حين كان اليمين واليسار والوسط، يعلو على السطح، أخذ جورج طرابيشي في نقد جميع الإتجاهات السائدة، ودون هوادة، فضلاً عن أنه اول من أدخل علم النفس إلى الوطن العربي، فقد ترجم جميع كتب فرويد وكارل غوستاف يونغ، وتبنى منهج لاكان في التفسير النفسي للأدب، وكتب عن الدولة القطرية والدولة القومية، وكانت نظريته الأبستمولوجيا قريبة من نظرة المفكر السوري برهان غليون، وخصوصاً في الموقف الليبرالي لكل منهما، والذي يظهر أكثر ما يظهر في كتاب برهان غليون" بيان من أجل اليدمقراطية" وكتاب جورج طرابيشي " هرطقات" .
تلك الطريقة بالتأريخ تسير من منطلق هيغلي – وإن لم يعبر هؤلاء عن هذا المنطلق مباشرة، من خلال النظر إلى أحداث التاريخ وكأنها تسير بإطراد نحو نقطة معينة، وكان المفكر اللبناني أبراهيم العريس، يسير على نفس المنهج، فقد ألف كتاباً عام 2010م، سماه " وجوه من زمن النهضة" ، تحدث فيه عن تلك الرموز التي شكلت معالم الفكر المعاصر، ومع ما يحتويه الكتاب من أخطاء نحوية وقواعدية، فإنه مليء بالمهاترات والتجذيف أحياناً بالفكر العربي الوسيط.
إن قراءة زمن النهضة العربية يُصور في الخطاب الإيديولوجي العربي على أنه فتح جديد ، فهنالك أزمة في المعنى ، لهذا نرى العديد من الكتب التي تحملُ عنواناً " قراءة جديدة " أو إعادة قراءة زمن النهضة ، وكل مُحاولة "كولومبسية" من هذه المحاولات تُصور أن النهضة العربية لم تُقرأ كاملة ، وأن الكشف الجديد هو القراءة الصراطية اليتيمة لسرديات النهضة الكبرى.
وينبثق منهج طرابيشي ومحمد أركون من محاولة أخرى لتأويل العقل العربي ترجع به إلى عصور التدوين الأولى ، وذلك طبقاً لمنهجية فرناند بروديل ومارك بلوخ ولوسيان فيفر ، ومدرسة الحوليات الفرنسية ، التي تقسم التاريخ إلى تاريخ قصير وآخر طويل .
*****
ولعل مشروع الأنسنة الذي ينطلق منه المفكر الجزائري محمد أركون، الذي يدرس الفكر الإسلامي في جامعة السوربون منذ ربع قرن ونيف، هو وحيد في مضماره، فرغم محاولات الدكتور حازم خيري ، في كتبه عن الأنسنة العربية والأوروبية، إلا أنه بقي أسيراً للرؤية اليسارية التي كانت تجتاح الوطن العربي قبل نصف قرن، ومحمد أركون في كتابه "نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي" ، يتحدث أكثر ما يتحدث عن مفكري القرن الثاني والثالث والرابع للهجرة، ويخص أبو حيان التوحيدي، ببحث يبين فيه مدى قدرة الفكر الإسلاموي على التلاقح مع المشرق الهندي الصيني ، والمغرب اليوناني – الروماني، ومن ثم الفارسي الزرداشتي والصوفي، ولقد كانت كتب مثل "مفتاح العلوم" للخوارزمي ، هي المنهج الديكارتي السباق لديكارت نفسه.
لقد ساهم محمد أركون في بلورة رؤية أبستمولوجية للفكر العالمي، وذلك عبر تبنيه لمصطلح " العقل الإسلامي" ولقد ألف كتاباً سماه بهذا الإسم ، وتلاه محاولته لتطبيق المناهج السيميائية واللسانية والأنثروبولوجية، على الفكر العربي الوسيط، وإنطلق في جدال مع الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، إلى أن تمرد على منهجه الفيلولوجي العقيم.
ولا أخفي القارىء بأن قراءة محمد أركون تعتبر ناقصة إذا لم يتلوها قراءة المناهج التي يتبناها من سيميائية وهيرمونطيقية، وهذه مناهج فلسفية وفكرية لم يترجم منها إلا النزر اليسير، فلا يوجد ولا كتاب واحد مثلاً ، عن الفيلولوجيا، ومع هذا قد تم ترجمة عدد من النصوص المؤسسة للمنهج السيميائي والألسني، مع أن الذي قاد إلى تلك المناهج، هو المنهج الفيلولوجي ، والذي كانت مجلة الدراسات الأميركية الألمانية اللغوية، تتولى نشر معظم الأبحاث المختصة بهذا المجال.
وبالنسبة إلى جورج طرابيشي، فإنه يقف في منطقة حرجة، فعلى حين كان اليمين واليسار والوسط، يعلو على السطح، أخذ جورج طرابيشي في نقد جميع الإتجاهات السائدة، ودون هوادة، فضلاً عن أنه اول من أدخل علم النفس إلى الوطن العربي، فقد ترجم جميع كتب فرويد وكارل غوستاف يونغ، وتبنى منهج لاكان في التفسير النفسي للأدب، وكتب عن الدولة القطرية والدولة القومية، وكانت نظريته الأبستمولوجيا قريبة من نظرة المفكر السوري برهان غليون، وخصوصاً في الموقف الليبرالي لكل منهما، والذي يظهر أكثر ما يظهر في كتاب برهان غليون" بيان من أجل اليدمقراطية" وكتاب جورج طرابيشي " هرطقات" .