معنى الجندية
لا شك في أنها لحظات صعبة وقاسية يشهدها المجتمع والدولة هذه الأيام، بعدما أدخلنا تنظيم "داعش" الإرهابي في لعبة ترقب وانتظار حرجة وقاسية. لكن الطمأنينة التي نملكها ويفتقدها الكثيرون تتمثل في كيف يقف مجتمع بأكمله، بكل أطيافه وتنوعه، خلف حياة رجل واحد، في الوقت الذي تشهد فيه مجتمعات مجاورة موتا يوميا مجانيا بالعشرات، وأحيانا بالمئات. هي الطمأنينة التي يحميها هذا التدفق الهائل من المشاعر النبيلة والانصهار في بوتقة واحدة من أجل حياة إنسان، مقابل حالة التطبيع مع الموت اليومي في الجوار.
بعيدا عن الجدل السياسي والاجتماعي، ومحاولة التوظيف وخلق الأوراق وخلطها التي تدار في الضواحي القريبة، فإن التفسير الأكثر عمقا لهذا الالتفاف الوطني هو حجم الإدراك الاجتماعي لمعنى الجندية في وعي الناس. هذا الوعي يجعلهم كتلة واحدة دفاعا عن حياة كل من يحترف الجندية، وتؤمن في الوقت نفسه أن الجندية هي أنبل ما يمكن أن يكون عليه البشر حينما تكون مشروع استشهاد دفاعا عن حياة الجميع؛ فلا يمكن أن نتصور في كل التواريخ والأزمنة معركة أو حربا عادلة من دون تضحيات وشهداء وأسرى.
كل عشائر الأردن، وكل بيت في مدنه وقراه، لها قصص مع الشهداء والتضحيات في سبيل الأردن وفلسطين وبلاد العرب؛ من حروب التحرير في الجزائر وليبيا، مرورا بحروب فلسطين وحماية عروبة الخليج، وصولا إلى إنقاذ الإسلام النقي من براثن التنظيمات الظلامية. وكل أولئك الشهداء؛ سواء من جنود الجيش العربي أو من أبناء المجتمع، هم اليوم قصص فخر وكبرياء ترويها الأجيال، وتُجمع على قدسية تضحياتهم. وهذه الحرب الأخيرة التي فرضت علينا هي حرب عادلة، تتجلى فيها معاني الجندية وروحها في التضحية والبلاء. ونحن إذ نتعاطف مع والد الطيار الأسير معاذ الكساسبة وأسرته الصغيرة، ونتفهم نبل مقاصدهم، فإن الأمر لا يبرر لآخرين أن يتحولوا إلى أبواق لدعاية هذه التنظيمات ومن يتحالف معها.
كان من المتوقع أن يدخل ملف التفاوض مع تنظيم "داعش" بشأن حياة معاذ مرحلة من الابتزاز والتوظيف في الحرب النفسية والدعاية الرخيصة من قبل التنظيم. وهذا ما يحدث بالفعل في هذه اللحظات. وللأسف، فإن بعض الأصوات في وسائل الإعلام وناشطين ومن يقولون برفض الإرهاب والتطرف، يقعون من حيث يدرون أو لا يدرون في شرك دعاية هذا التنظيم وأشباهه من تنظيمات ظلامية، حينما يتحولون إلى مجرد مرددين وحملة لرسائل الإرهابيين.
يقال إن "داعش" يستخدم بكفاءة وسائل الاتصال والإعلام والتكنولوجيا، لتحقيق استراتيجيته، وصولاً إلى إحراز المكاسب بالخوف. وهو لا يتورع عن استخدام مبدأ "دعاية الفعل" الذي برع فيه النازيون في الحرب العالمية الثانية؛ أي الدعاية المؤلمة والموجعة التي تستخدم الأفعال المادية لتحقيق أهداف دعائية أوسع، الأمر الذي يفعله التنظيم بجز رؤوس صحفيين وغيرهم. وقيل الكثير خلال الأسابيع الماضية عن الاستراتيجية الدعائية لتنظيم "داعش"، وتم إضفاء صفات القوة والقدرة والتفوق عليه. وهذا ما كان يريد التنظيم أن نصل إليه، ضمن هدفه الاستراتيجي الذي يعتمد على إذكاء فكرتي الصدمة والقوة. والسؤال المهم هنا هو: كيف يتم ذلك؟
من المعروف أن "داعش" لا يملك وسائل إعلام مركزية تقليدية أو جديدة، وهو يعتمد بالدرجة الأولى على الإعلام الاجتماعي وعلى النشاط الفردي لأنصاره. وبمراجعة الحملات الدعائية الكبيرة التي نظمها تحت عناوين متعددة والحملات الراهنة، ومنها الحملة حول مصير الطيار الأردني، نجد وللأسف، أن سر انتشار هذه الحملات متبرعون من وسائل إعلام وناشطين غير مؤيدين للتنظيم، لكنهم تحولوا إلى أداة لنقل رسائله ونشرها، وإضفاء صفة القوة والهيبة عليه.
خلاصة معنى الجندية تتجسد في الإيمان بالوطن مهما اختلفنا من أجله، والثقة به؛ فلا قيمة للتضحية إذا لم تكن كاملة غير منتقصة أو مشفوعة بالآخرين.