لوين رايحين؟
في كل أرجاء العالم، توجد حركة دائمة وسعي حثيث للتطوير، ورغبة قوية في إحداث النمو والتقدم. فالتصنيع والتكنولوجيا ومظاهر الحداثة، بادية للعيان في كل أوجه الحياة؛ في الخدمة والمعاملة وسهولة الحصول على كل ما تريد من دون تعقيدات. وفي المجتمعات الزراعية، يبدو الجميع منهمكين في العمل والإنتاج، وتطوير أدواته، وتسويقه، كما في البحوث التي لا تتوقف.
في بلداننا العربية التي تحررت من الاستعمار منذ عقود، ما تزال أغلب أنظمتنا مسكونة بهاجس الاستقرار؛ تبحث عن هويتها، وتحاول التغلب على المؤامرات التي يحيكها الخصوم، وتسعى إلى تطوير جيوشها وتحديث تسلحها، وبناء التشريعات التي تمكنها من ملاحقة الأعداء الداخليين والخارجيين. هذا المشهد يبدو أزليا وغير قابل للتغيير.
في العالم، المشاكل آنية؛ تنتهي بعد أعوام، ولا أزمات تتوالد. ففي الفترة بين العام 1948 واليوم، استطاعت الصين أن تمارس الحياة الاشتراكية لما يقارب الثلاثة عقود، لتنطلق بعدها ملتحقة بركب العالم الصناعي، فتصبح ثاني أكبر اقتصادات العالم بنمو بقي فوق كل المعدلات التي يطمح إليها العالم الصناعي. كما استطاعت كوريا الجنوبية إخراج نفسها من قوائم الدول النامية، لتصبح من بين أهم الدول الصناعية، ولتغزو بمنتجاتها أسواق العالم، من دون أن يمنعها من ذلك الصراع المتجدد مع جارتها الشمالية، أو يحد من رغبتها في التقدم إلى الصف الأول بين منتجي السيارات وبناة السفن ومصنعي الإلكترونيات. كذلك، فإن الهند تحقق نموا بمعدلات ثابتة وواعدة. والأمر ذاته صحيح بشأن جنوب أفريقيا والبرازيل اللتين أصبحتا ضمن القوى الاقتصادية العالمية المرموقة.
لدى كل هذه المجتمعات معتقدات. لكنها لا تعيش لتقاتل من أجل إرغام الآخرين على اتباع معتقداتها، أو تتقاتل بسبب تفسيراتها المتباينة لها. حرية الاعتقاد والتعبير قضية مقدسة، وتقع في صلب الثقافة الحقوقية التي آمن بها العالم، ودعا إلى احترامها والدفاع عنها. وفي مجتمعاتنا وبين ظهرانينا من لا يؤمن بهذا الحق، وفي عالمنا من يحاكم الناس على معتقداتهم.
الثقافة الجديدة التي ابتدعها البعض بمسميات إسلامية؛ تعادي الحياة وتؤمن بالقتل والتنكيل، يديرها أشخاص يظنون أن الطريق إلى التقدم تأتي عبر إبادة كل الذين لا تتوافق معتقداتهم مع ما يتوافق مع فتاوى شيوخهم! وفي العالم اليوم خوف وريبة ومشاعر رفض وعداء، ولديها إصرار البعض على احتراف سفك الدماء كوسيلة للإعلان عن وجوده، وبث الرعب في نفوس من حوله.
مشاهد القتل هي الأكثر وضوحا في الفضاء العام؛ السيوف والخناجر والسياط أعيدت للخدمة، لتطغى صور استخدامها على كل الصور الجميلة التي حملها المسلمون للعالم. وهكذا حركات تولدت في بيئات أخفق معظمها في استيعاب ودمج الجميع في ثقافة جامعة، فأصبح البعض يبحث عن أدوار في جماعات تم تأسيسها على أفكار لا تخلو من الانتقام والتعصب ورفض وجود الآخر، أدواتها القتل والتدمير، وحرفتها صناعة الموت وتوليد الرعب والخوف وإحداث الدمار لكل مظاهر الإنجاز الإنساني.
ما يحدث في عالمنا من معاداة للإنسانية وإعلان للحرب على البشرية باسم الإسلام، ظاهرة تكشف عورات البنى التي تشكلت في مجتمعاتنا، ورفعت شعارات العدل والحق والحرية. إذ بينت عدم قدرتها على الاستيعاب، وتجاهل حالة التباين بين فئات أتخمها الثراء والوفرة، وأخرى تعاني من الجوع والمرض والعوز. وذلك في مجتمع يفاخر بأنه قدم حلولا لمشكلات البشرية حين قدم لها ثقافة التكافل والود والتراحم، ونماذج نجحت في تطبيقها عندما لم يجد بعض الخلفاء فقيرا يستحق الصدقة.
الوضع العربي القلق، وهيمنة النخب على المقدرات، وتباطؤ التنمية والتحديث، استغله البعض في التحريض على النظم القائمة والدعوة إلى نظام جديد يبشر بالعدالة والمساواة لكل من يعتنق مبادئ الجماعات ويسير في ركبها. الفوضى التي تجتاح الإقليم، ولا تجد تفسيرا من قبل مفكرين، وإجابات مقنعة من قبل من يسيّرون الشؤون العامة، تخلق حالة من الخوف والقلق على مستقبل المنطقة وإنجازات أبنائها مهما كانت محدودة. ففي ظل هذه الفوضى، لا يعرف أحد منا إلى أين نسير، أو ما الذي سيحصل في قادم الأيام.