الرئيس في الـ77
يسجّل أصدقاء د. عبدالله النسور وخصومه له، وهو يحتفل بعيد ميلاده السادس والسبعين، أنّه من أذكى وأقوى رؤساء الحكومات الذين مرّوا على البلاد منذ مدة طويلة؛ يمتاز بدرجة عالية من الإحاطة بتفاصيل الأمور الدقيقة في شؤون الإدارة والحكم، وبالدهاء السياسي.
وإذا كان هناك دعم واضح من المؤسسات المختلفة في الدولة له، ما حماه في أوقات عدّة من انقضاض خصومه السياسيين تحت قبة البرلمان وخارجها عليه، إلاّ أنّ هذا الدعم لم يكن ليتحقق بهذه الصورة لو كان الرجل ضعيفاً؛ إذ ساهم بقدراته الجدلية والسياسية في إقناع "مطبخ القرار" بأنّه أفضل من يعبر اللحظة التاريخية الحالية.
لو تجاوزنا الشق الاقتصادي (الإشكالي في تقييم الرئيس) إلى الداخلي، فسنجد أنّ الحكومة أعدّت مشروعي قانوني البلديات واللامركزية، ودفعت بهما إلى البرلمان، فيما ما يزال مشروع قانون الانتخاب النيابي في عهدتها، بعدما جاهد النواب وراء الكواليس لتأجيله، خشيةً من سيناريو الحلّ.
ويسجّل للحكومة أنّها لم تشهد، خلال الفترة الماضية، أي في عهد د. النسور، قضايا فساد من العيار الثقيل، بما يثير الرأي العام. كما أنّ هناك تقدماً ملموساً في محاولة رد الاعتبار لهيبة الدولة، على نحو ما رأينا في امتحان الثانوية العامة "التوجيهي"، وسرقة المياه، وحتى التعامل مع الأحوال الاستثنائية غير الطبيعية، كما هي حال العاصفة الأخيرة.
إلاّ أنّ "الغمامة السوداء" الداكنة التي تقيم فوق رأس د. النسور لا تتمثّل في قضية "الشعبية"، التي أعلن الرئيس -ضمنياً- أنّه تجاوز هاجسها، بل هي تتمثل في "المصداقية". وكثيراً ما أطرح على نفسي سؤالاً (أتمنى على الرئيس أن يجرّبه بصدق) عن رده وموقفه تجاه قضايا متعددة فيما لو كان ما يزال على مقاعد البرلمان، وهو الذي طالما أغدق النصائح على الحكومات السابقة في هذا المجال؟!
ربما اللحظة التاريخية اختلفت تماماً بين مرحلة الحراك الشعبي العربي والمحلي، واللحظة الراهنة التي تطغى فيها الهواجس الأمنية والحرص على تجنب الكوارث المحيطة. لكنّ ذلك ليس سبباً ومبرراً للانقضاض على الروح الإصلاحية التي تصاحبت مع "الربيع العربي"، وما انبثق عنها من مخرجات دستورية وسياسية مختلفة؛ بل على النقيض من ذلك، هو سبب للدفع بقوة للإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، لأنّ ما يحدث في المنطقة يؤكّد بدرجة كبيرة أنّ مصدر الخطر والتهديد اللذين يواجهان الدول والاستقرار والسلمي الأهلي، من الداخل لا من الخارج؛ ولأنّ الإصلاح السياسي ضرورة داخلية وطنية، قبل كل شيء، للتصدي للتحديات المستقبلية الكبيرة التي تواجهنا، ولتعزيز قدرة الدولة على الإدماج السياسي والاجتماعي، وهو الشرط الأول لمواجهة تهديد الفكر المتطرف.
ما يحدث من اعتقالات، والإحالة إلى محكمة أمن الدولة، لسياسيين ونشطاء، هو انقضاض على التعديلات الدستورية وما انبثق عنها من تحديد نطاق صلاحيات هذه المحكمة، بما يخرج منها الحريات العامة وحرية التعبير. وبالإمكان محاسبة المتجاوزين على القانون أمام المحاكم النظامية، وليس محكمة أمن الدولة.
لم يُحدث الرئيس أي انفراج سياسي داخلي، ولم نشعر بأي دور حقيقي للوزراء الذين كنا نحسبهم على الخط الإصلاحي (السياسي). ومن الواضح أنّ ما يحدث في المنطقة قد طغى تماماً على مزاج الدولة في موضوع الإصلاح السياسي، بما يضعف فرصة تاريخية حقيقية لبناء جبهة متماسكة داخلياً، مبنية على تفاهمات وتوافقات وطنية، تمثل صمام الأمان الحقيقي للدولة في مواجهة أي تحديات أو تهديدات خارجية.
هل يستثمر الرئيس الوقت المقبل، وبمناسبة دخوله في عامه السابع والسبعين، في إحداث انفراج سياسي داخلي، وردّ الاعتبار للمسار الديمقراطي الإصلاحي؟