بين فاتورة الكهرباء وفاتورة النقال

كانت أعمدة الكهرباء وسيلة إعلانية وإعلامية رائجة قبل ثورة الاتصالات , فهي التي تمسك بلافتات الإعلان الانتخابي وباقي الإعلانات التجارية وهي التي تحمل لافتات التهنئة وهي ايضا التي تحمل اشارات ارشادية الى بيت الأجر ونجحت اعمدة الكهرباء في وظيفتها اللوجستية طوال عقود، ومؤخرا نجحت ايضا بكشف عيوب اجتماعية كثيرة ليس اولها الاعتداء عليها وعلى إضاءتها في مواسم الغضب ولا آخرها الانقلاب على حقيقة ارتفاع اسعار الطاقة وضرورة ان يواكب هذا الارتفاع ترشيد في استخدامها .

أعمدة الكهرباء نجحت في تقريب وجهات النظر الحكومية والنيابية على ارضية ضرورة الرفع بحسب حصة الأردنيين في الاستهلاك ووصلت القواعد النيابية مع الحكومة الى توافق بتخفيض نسبة الارتفاع المطروحة من الحكومة الى النصف بعد ان ساد صوت العقل على صوت "الشعبوية” وهذه وسطية مقبولة نسبيا لسببين اولهما ان مبدأ ترحيل الازمات يجب ان ينتهي والى الابد، وثانيهما ألا خاسر في معركة شد الحبل بين السلطتين , شريطة ان تضبط الحكومة القطاع الخاص في عدم رفع الأسعار على المواطن لأن حجم الارتفاع في اسعار الكهرباء رافقه انخفاض كبير في اسعار المشتقات النفطية .
عمود الكهرباء في الاردن قصة نجاح بعد ان نجحت شركة الكهرباء في اضاءة اكثر من 95 % من البوادي والأرياف وبنسبة تفوق دول نفطية شديدة الثراء وكان "فلس الريف” هو كلمة السر في النجاح , لأن مضمونه كان الأخذ من القادر لدعم غير القادر وهذه الفلسفة يجب ان تسود في كل القوانين والانظمة ويجب ان تسود في قانون الضريبة وباقي المنافذ الاقتصادية فحماية الشرائح الدنيا مطلوبة كواجب وطني واخلاقي واستثمار حالة رفع الكهرباء لرفع الاسعار مقابل انخفاض اسعار الديزل مثلا بنسبة 40% امر غير مقبول اخلاقيا ونحن جميعا نعلم ان أي قطاع تجاري او استثماري ينفق اكثر من الربع على النقل .
طرافة عمود الكهرباء في الاردن لا يضاهيها اية طرافة في أي بلد آخر , فوظائفه المتعددة جعلته قصة مع شقيقه عمود "الهاتف الخشبي” الذي كان يحمل ايضا شعارات الحب المنقوشة على سيقانه ولكنه لم يحقق عائدات اعلامية كما عمود الكهرباء الذي كان يحتضن طرفي الشارع عكس عمود الهاتف , فالاردني الذي يشكو من اسعار الكهرباء يُقبل على استهلاك المواد الثانوية بأضعاف استهلاكه للكهرباء , ففاتورة الهاتف المحمول في المنزل الواحد ضعف فاتورة الكهرباء ومع ذلك ترى انتشار الهاتف المحمول في ازدياد والاقبال على اجياله الجديدة في ارتفاع اكثر حتى بات الهاتف شكلا من اشكال القيمة الاجتماعية .
ثمة ازمة حقيقية في العقل الجمعي الاردني الذي بات يشكك في كل خطوة رسمية ويشعر بأن فاتورة الدولة وخدماتها فاتورة مشكوك بصحتها وهذا له اسبابه المفهومة طبعا ولكن جرى المبالغة غيها بشكل كبير , مقابل ما يشبه الإذعان لكل فواتير القطاع الخاص او الجهات غير الحكومية , فلا أحد يسأل عن فاتورة الانترنت بل يقوم بدفعها على عجل ودون اية محاولة للاعتراض وكذلك فاتورة الهاتف المحمول على عكس فاتورة المياه مثلا ولا يسأل عن سرّ الفارق الهائل بين سعر الكستناء التركية وشقيقتها الصينية فتراه يصرخ في ابنه " اشتريها تركي " .
كذلك هناك شحن غريب وعجيب ضد أي قرار رسمي دون قراءة الواقع لا في الجوار واسعاره مثلا ولا في الاسباب الموجبة للقرار نفسه , فنحن أمام حالة اتهام للدولة غير مسبوقة وبالمقابل نطالب ونفتخر بالأمن والهدوء وبمزيد من الخدمات فكيف يمكن معالجة هذا الاختلال في الوعي دون الوقوف على اسبابه ومعالجتها من جذورها برفع درجة الاحساس بالدولة وهيبتها وضرورة قوتها على الجميع دون فوارق او تفريق فالدولة جدارنا الوحيد الذي يسندنا .