هوية الحرباء
قد يكون هاجس النجاة والبحث عن مأمن من اهم العوامل المحرّكة للتاريخ، فقد نتج عن هذا الهمّ البشري الأبدي هجرات، ونزاعات وتنافس محموم، واذا كانت بعض الكائنات بلا هوية لأنها تبدّل لونها كالحرباء عشرين مرة في النّهار اذا تعدّدت مصادر الخوف فإن الانسان ايضا قد يجد نفسه كذلك فثمة من غيّروا اسماءهم وحتى جلودهم واجروا جراحات للوشم المحفور على ايديهم بحثا عن النجاة .
لكن البشر ليسوا سواسية قدر تعلق الامر بخياراتهم ولو أخذنا السود مثالا فإن منهم من غيّر لون جلده بالفعل مثل مايكل جاكسون كي يتماهى مع الرجل الأبيض، ومنهم من صدّق اسطورة التفوق العرقي والدم الأزرق وأقنع نفسه بأن يكون ماسح أحذية على رصيف، وبالمقابل هناك من حول سواده الى امتياز مثل سنجور الشاعر والرئيس الأسبق للسنغال وايميه سيزير الذي تعلم الفرنسيون من سواده الساطع بياض القلب، وجوليوس نيريري الذي لم يحلم بالعودة الى الرئاسة على دبابة بل قرر ان يعمل في خدمة الانسانية حتى الموت، واذكر انني قلت له في لقاء قبل عقدين من الزّمن ان امي وبّختني لأنني قلت عن امرأة في قريتي انها سوداء، ومنذ ذلك اليوم وانا اسمي الاسود أخضر وقد اتّضح ان الخضرة هي اقصى السواد حتى من الناحية الفيزيائية، لهذا اطلق على العراق ذات ربيع تاريخي بأنه ارض السواد لشدة اخضراره، والخيارات التي واجهها الرجل الأخضر او المرأة الخضراء واجهها ايضا الأعمى والأطرش والمُقعد، فثمة عميان قرروا منذ البدء ان التسول على ابواب المساجد هو الحلّ، مقابل آخرين من امثال طه حسين وبورخيس والمعرّي قرروا اصلاح العالم والابصار بعقولهم لمن لا بصائر لهم رغم ان نظرهم ستة على ستة ! اما الأطرش فقد أسعد ملايين البشر بسيمفونياته الخالدة، ويقال عن بتهوفن انه بسبب فقدان حاسة السّمع لم يكن يسمع التّصفيق المتواصل، لهذا يضطر من معه الى ان ينبّهه لذلك، فيسمع التصفيق بعينيه !
أما المقعدون فكان بينهم رؤساء دول كبرى ومؤلفون كبار وعلماء حلّقوا عاليا بعقولهم وابداعهم رغم انهم لا يستطيعون الوقوف . اما من استعار من الحرباء مفهوم الهدنة فهو ايضا النموذج المضاد لوردة لا تستطيع اخفاء هويتها لأن رائحتها تسبقها !