كفتة "كوشير" على الطريقة الفرنسية
ما إن يشكك أحدٌ ما في احتمال وجود قصة خفية وراء حدث كبير، حتى يجد من يردّ عليه بالسؤال الاتهامي الشائع، والمُحمّل غالباً بالسخرية؛ "أنت إذن من أصحاب نظرية المؤامرة؟!"، وربما يعتبره آخرون عاجزاً عن رؤية العوامل التي أوصلتنا نحن العرب إلى ما وصلنا إليه، وجاهلاً أو غير عارف كفاية، بالظروف السياسية والاجتماعية التي كان لا بد لها أن تفرز هذه الحال التي أمست عليها بلادنا، وأن تضعنا في الكفة الخاسرة من الميزان الدولي، كلما دق كوز بجرة، في شمال الأرض، كما في جنوبيّها.
ومع التكرار الذي يعلم الشُطّار، كما تقول العبارة المعروفة، لم يعد المتشككون، أو لنقل كثيرون منهم، يجرؤون على التصريح بشكوكهم، إزاء أي متغير سياسي مفاجئ، حتى لا يتهمهم أي كان باستسهال نظرية المؤامرة، بدلاً من تقصّي معطيات الواقع.
وهكذا صار عليك أن ترى نصف الحقيقة، وتتعامى عن نصفها الآخر، فتؤمن مثلاً، بأن عجز المجتمع الدولي عن إنقاذ السوريين من المذبحة المستمرة بحقهم، للعام الرابع على التوالي، يعود إلى اعتبارات تتعلق بالفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن، لا إلى استخدام إسرائيل نفوذها العالمي لحماية نظام آل الأسد الذي حمى حدودها أربعين عاماً. كذلك، وفي إطار التفكير الموضوعي العقلاني إياه، ينبغي النظر إلى أخطاء الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، باعتبارها أسباباً كافية للثورة عليه ثم إطاحته، وإياك أن تشير ولو تلميحاً إلى بصمات إسرائيل، وقد ظهرت لاحقاً على السلوك السياسي لقادة الانقلاب العسكري نحو الفلسطينيين، كما نحو قطاعات واسعة من المصريين أنفسهم.
ثمّة طبعاً أمثلة أخرى، لا تتسع لها هذه العجالة، وكلها تقول إن رخاوة الخاصرة يجب ألا تُعمينا عن رؤية السكين تنغرز فيها. المعطيات في الواقع العربي سيئة من دون شك، لكن المؤامرة موجودة أيضاً وستظل، طالما ظلت الصراعات السياسية، وما نفيُها وإطلاق السخرية من أصحابها، إلا مؤشرٌ على المؤامرة الأخرى التي تستهدف حرف الأنظار عنها.
أقول ما أقول، وفي ذهني قصة الهجوم على صحيفة "شارلي إيبدو" الباريسية، بعدما باتت تملأ الدنيا وتقسم الناس مجدداً إلى فسطاطَين، يعتقد أولهما بصحة الرواية الرسمية عن شقيقين من أصل عربي مسلم نفذا العملية ثم لوحقا، وصديقهما الذي هاجم متجراً يهودياً حتى الموت، بينما يشكك الثاني في مسؤولية طرف آخر قد يكون فرنسا نفسها أو إسرائيل عمّا حدث، توخياً لأهداف سياسية.
ودونما ترجيح أيٍّ من الرأيين، فإن الخشية من تهمة الاعتقاد بنظرية المؤامرة ينبغي ألا تحول دون طرح تساؤلات مهمة عمّا إذا كان هجوم باريس ذا علاقة بالظروف السياسية، وجاء ليخدم نيات التدخل العسكري في ليبيا، أو ليجهض اعتراف الدول الأوروبية بفلسطين، أو ليبرر انتهاج سياسات مضادة للهجرة المتدفقة من شرق المتوسط، أو ليمهد الطريق أمام قرارات تحدّ من الحريات.
لكن أكثر ما قد يعزز نظرية المؤامرة الشكوك في السرد الأمني لقصة الهجوم، وأولها أن منفذيه المفترضين قد نفذاه، على الرغم من أنهما مشبوهان ويخضعان أصلاً للمراقبة، في حين كانت "شارلي إيبدو" مهددة دوماً، وثانيهما أن المشتبه الثالث قد اضطر في أثناء هروبه، ويا لمساوئ المصادفات، إلى احتجاز رهائن في متجر متخصص بما يسمى طعام "كوشير" اليهودي، لتكتمل بذلك ثالثة الأثافي، عند نقل جثامين الضحايا الفرنسيين اليهود لتدفن في القدس، بينما خصصت فرنسا آلاف رجال الأمن لحماية المصالح اليهودية.
وإذ ظهر أخيراً مقطع فيديو يكشف بل يفضح تراجع دورية للشرطة الفرنسية، أمام المهاجمَين، وسماحها لهما بالمرور، والهرب، تتزايد الشكوك في أن حبكة هذه القصة قد لا تكون أفضل بكثير من حبكة قصة جهاز علاج الإيدز المصري الذي اصطلح على تسميته بجهاز الكفتة.