استكمال مشروع التقسيم

مر على العالم العربي استحقاقات متعددة على امتداد جغرافيته.. أقسى هذه الاستحقاقات التي عانى منها التجزئة وتقطيع أوصاله إلى وحدات جغرافية تزيد عن 22 كينونة جغرافية، ومن إرهاصات هذه التجزئة أن انبثق عن هذه الكينونات نظم سياسية تمثلها، وهذا الاستحقاق إلاّ نتاج لمعاهدة سايكس بيكو التي تم توقيعها بالحروف الأولى في بدايات القرن العشرين والانتداب وها هو أيضاً استحقاق سلب أجزاء من تراب العالم العربي وأهمها بالطبع ارض فلسطين وكان آخرها جنوب السودان مروراً بسبتة ومليلية.. إلى آخر القافلة.
وعاصرنا في الآونة الأخيرة حراكاً عربياً بل حراكاً شعبيا أطلق عليه أهل الساسة بالربيع العربي الذي مضى عليه ما يناهز الأربع سنوات وما زالت آثاره وارتداداته فاعلة حتى اللحظة ويعتبر حقبة من حقب الاستحقاقات الجديدة التي عانى منها العالم العربي وما زال، صحيح أن الشعوب العربية قد استقبلت هذا الربيع العربي كمخلص من الديكتاتوريات والاستعباد والفقر الناتجة عن ضعف في التنمية إلا أن هذه المناسبة بدأ يظهر من بين ثناياها الكثير من الإرهاصات بعد أن دخل على خط هذا الحراك قوى دولية وإقليمية كبرى تتدخل في مصائر مستقبل الشعوب العربية التي مر عليها هذا الربيع.
لطالما كان الوجدان العربي يملك وحدة حال تتخطى الحدود المصطنعة التي صنعت تجزئته، ولطالما أيضاً وأيضاً كانت هذه الحدود عنواناً من تاريخهم الأسود البغيض، صحيح أن التجزئة جزء من واقعهم المرير إلا أن الشعوب كانت معادية لها، وكان قادة الرأي لديهم وقواهم الفاعلة الحية تنادي إلى زوال هذه الحواجز بل كانت دائماً وأبداً القضايا الكبرى للأمة عنواناً لوحدتهم وكانت بوتقة هذه القضايا هي القضية العربية الفلسطينية، وكان العرب على قلب رجل واحد في حرب استقلال الجزائر وانشدوا جميعاً لاستقلال هذا البلد العربي العزيز بل كانت الشعوب تتصدر المنادى ودفع أنظمتها إلى المشاريع الوحدوية. وللأسف نشهد في الآونة الأخيرة من حيث لا نحتسب إعادة صياغة للوجدان العربي.. ومن مظاهر إعادة الصياغة هذه ما نشهده من تنازع وتباين واصطفاف ليس الحديث هنا فيما بين المجتمعات العربية بل الأدهى والأمر بين مكونات المجتمع الوطني لكل كينونة جغرافية من أقطار الوطن العربي الأكبر، حيث بدا المشهد أكثر تعقيداً وبدت المجتمعات العربية القطرية يظهر عليها عوامل التفتيت والتمزيق الفكرية والعقائدية والجمهورية والولائية إلى آخر القافلة... وبدا المشهد يذهب بعيداً رويداً رويداً إلى التفتيت وصولا إلى حد عدم قبول الآخر والإقصاء بل إلى حد الاقتتال والاحتراب حيث كان هذا حتى الماضي القريب كفراً في قاموس الوجدان العربي وكذلك في مبادئ المجتمعات الوطنية. والذي يثير الاستغراب أن هنالك مجتمعات وطنية متجانسة قوميا وعقائديا وطائفيا إلا أن هذا الداء بدأ يتغلغل في مجتمعاتهم وهذا ماثل في المشهد المصري والتونسي والليبي، حيث إن هذه الدول ليس فيها بعد قومي ولا طائفي بل هي أكثر المجتمعات العربية تجانسا ومشهد الانقسام والتفتيت هنا يدخل في خانة الولاءات... وفي الجانب الآخر هناك دول متجانسة قوميا إلى حد بعيد إلا أنها فيها تباينات طائفية، فبدا المشهد يأخذ الصفة العقائدية الطائفية والولائية في آن واحد بعد أن كانت عوامل الفرقة هذه حتى الماضي القريب ليست ذات أهمية كون أن الجامع العربي الإسلامي الكلي اكبر من أي عناوين فرعية أخرى في هذه المجتمعات إلا أن الداء قد تفشى واستشرى...
سايكس بيكو قسم الجغرافية العربية لغايات استعمارية كولونولية امبريالية لأضعاف هذه الأمة وإقصائها حتى لا يكون لها دور تنافسي مع أقرانها ومنها الدول العظمى لا في السابق ولا في الحاضر ولا في المستقبل، نجح سايكس بيكو هذا والقائمون عليه في تقسيم الجغرافية لكن لم يستطع أن يترجم هذه التقسيم في وجدان الشعوب العربية بعد ما يقارب المائة عام.. ها هي الأمة تمر في أسوأ مراحلها في التاريخ المعاصر بعد أن كانت الهجمة مرتكزة على الأرض، هاهي المعادلة تتبدل وتتشكل ويصبح الإنسان العربي هو المستهدف في إعادة الهيكلة والتقسيم وصولا إلى عبث ضياع الهوية بين هويات الفرعية المتعددة حتى يستكمل مشهد التقسيم والتفتيت بعناصره الأرض والإنسان معا.