هم يقرأون عنا ويكتبون



شد انتباهي حين نمت تلك الليلة في القرية القديمة "ضانا" ذات الغرف والبيوت التي غادرها أصحابها على حال عتقها الذي يحمل عددا من السنين خلت، وتركت بقايا بيوت وكهوف وأحواش على سفح الجبل المطل على أودية عميقة، يتخللها الماء والشجر والقلاع الكبيرة، وجاء منهم من يستثمر تلك البيوت على شكل فنادق قديمة، تحمل إرث المكان وتجعل منه مكانا ذا طراز مختلف بما أضيف عليه من تحسينات تتناسب وعتق المكان وبقاياه الضاربة في جذوره المتأصلة عن الأجداد.

رحت تلك الليلة أتأمل الدهاليز والممرات الضيقة والشرفات التي تطل على الوادي، وتلك التي تطل على الجبال، وأتمتع بهدوء ساحر قل نظيره في مكان تتوسع فيه مساحات الفكر للتأمل والبحث عن الذات، ومن موقع جميل إلى موقع أجمل منه,شد انتباهي نزلاء الفندق من أصحاب الجنسيات الغربية, كانوا من الأسبان, والفرنسيين, والألمان,والهولنديين, في كل أو منفرد يحملون كتبا ويقرؤون كل في زاويته ومكانه ودون أن يتحرك ساكنهم قيد أنمله.


لم يمض إلا قليل من الوقت رأيت مجموعة من أحد الدول العربية تسكن الفندق, وما أن وضعوا حقائبهم داخل غرفهم, جلسوا على الشرفة التابعة لها وأخذوا يتحدثون بصوت عال, تحول فيما بعد إلى تصفيق, ثم إلى دبكة وغناء, شد انتباه الموجودين عربا وغير عرب... أمسكوا بكتبهم ووقفوا ينظرون ويتحدثون كل بلغته, ربما كانوا ينتقدون, أو يقولون عنهم وعنا كلاما لا نعرفه, وما أن خف الصوت والضجيج قليلا , خرجت مجموعة من موقع آخر راحت تصفق وترقص على أنغام أغنية زجلية محلية, استقدمت الغرباء بعد أن وضعوا كتبهم وانضموا إلى حلبة الدبكة إلى أن انفضت الحلقة وعادوا إلى أماكنهم وفتح كتبهم, فالجو هادئ فيه عتمة وسكون, وتأمل قد يقود إلى معرفة ما لا نعرفه .


اقتربت من أحدهم وكان اسبانيا, وإلى جواره عددا من الكتب والخرائط, وكان مندهشا لما رآه من التكوينات الطبيعية, بل إلى التحفة الرائعة ضانا وما فيها من مشاهد وصور يحتفظ بها, وإلى مجموعة صور لمأدبا والمناطق التي زارها قبل الوصول إلى ضانا, بل إن الخرائط التي يحملها كانت تضم كل المواقع السياحية في الأردن تنتهي آخر رسوماتها في البتراء والعقبة.
لقد عرفت من خلال الحديث معه أنه سيزور فلسطين, ويختتم جولته في الهند, ويكون بذلك قد أنهى جولة استغرقت عاما كاملا لدول العالم, وعرفت كذلك أن هذه الجولة السياحية للتعرف على التراث والتقاليد وكل ما من شأنه أن يجلب الانتباه ويثير الاختلاف, يقدم للشركة التي يعمل بها عبر تقرير مفصل ومصور بعد إنهاء جولته يعبر عن كامل تصوراته ومشاهداته عن دول العالم التي زارها, ليصبح هذا التقرير جزء من ثقافة توسع مدارك الفرد وتخدم حاجات الشركة والدولة في اسبانيا التي كان لها نصيب في استعمار الدول, ونصيب آخر في البحث والاكتشاف والمعرفة عند الحاجة.

هم يقرأون   ويشاهدون ثم يكتبون عنا كل حرف في جولاتهم، وزياراتنا الشخصية والرسمية إلى بلادهم لا تخرج عن كونها مجرد نزهة لا تحمل صورا أو أثرا، بل مشاهدات آنية مفرحة تروح في سجل الذكريات الشخصية التي تندثر بعد حين.