متلازمة "ممنوع النشر" في مواجهة حرب "داعش" الدعائية

أخبار البلد - 
مقابلة "داعش" المكتوبة مع الملازم الطيار معاذ الكساسبة، بعد أيام على وقوعه رهينة أثناء تأدية واجبه العسكري في سماء مدينة الرقّة السورية -عاصمة "الدولة الإسلامية" وفق أدبيات هذا التنظيم التكفيري- أجّجت جدالا شعبيا على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط تكتم المصادر في مراكز صنع القرار.
هذه المعادلة تعكس -في جوانب عديدة- حدا أدنى من التوافق الوطني حيال قرار انضمام الأردن للتحالف العربي-الغربي ضد الإرهاب التكفيري في جوارنا.
وهذا متوقع. فالأردنيون ليسوا نسخة كربونية، وإن أصر عديد مسؤولين على التعامل معهم وكأنهم كتلة واحدة، بذات الطعم واللون والنكهة.
من تابع الحوارات في الفضاءات الافتراضية الأعلى سقفا مقارنة مع أجواء التكتم المسيطرعلى وسائل الإعلام التقليدية، العامة والخاصة -طوعا، نتيجة رؤية تحريرية، أو انصياعا لأوامر عدم النشر لحساسية الموقف- إما أصيب بصدمة لسذاجة بعضها، أو شعر بالغثيان حيال ما عكسه بعضها الآخر من رؤى مقززة.
تلك الحوارات أعقبت تحميل روابط المقابلة على موقعي "فيسبوك" و"تويتر" من وسائل إعلام محسوبة على "داعش"، أو من مواقع إخبارية غالبيتها عربية تصدر في دول غير مشاركة في الحرب. ورافق المقابلة صورة للملازم الكساسبة. وقدّمت تفاصيل عن الجهد العسكري وكيفية إصدار الأوامر.. إلخ.
وسائل الإعلام المحلية تغاضت عن نشر المقابلة في مجلة "دابق"، فيما نزعت غالبية المواقع الإخبارية إما إلى عدم نشرها أو نشرتها ثم سحبتها فجأة، ما دفع الأردنيين إلى "التغريد" و"الفسبكة"، واللجوء إلى وسائل إعلام عربية وأجنبية.
الحوارات عكست ثلاثة اتجاهات؛
الأول، جاء استكمالا لحملة شعبية عارمة وحدّت الأردنيين خلف شعار: "كلنا معاذ"، وابتهلت إلى الله عز وجل أن يعيده سالما لوطنه وأهله.
الاتجاه الثاني، وقف في منتصف الطريق؛ ما حصل للملازم الطيار يأتي في سياق أحد السيناريوهات الأسوأ ضمن تقدير المخاطر العملياتية المرافقة للحرب على الارهاب. وبذات النفس، تساءل أصحاب هذا الاتجاه: كيف ستتعامل المملكة مع تنظيم إرهابي وهي عضو فاعل في حلف يعمل ضمن محددات قانونية وسياسية، ويخضع لرقابة برلمانات فاعلة قادرة على مراقبة ومحاسبة متخذي القرار الرسمي هناك؟ وكيف ستتفاوض مع تنظيم وجد في سوء طالع هذا الطيار الشاب ورقة تفاوضية مؤثرة ووحيدة تعطي لداعش مساحة كبيرة لرفع سقف مطالبه؟ وتساءلوا عن تعامل الحكومة مع رأي عام لم يجهز للتعاطي مع تداعيات الحرب أصلا في حال أقدم التنظيم على عمل انتقامي ضد هدف داخلي، أو ضد الطيار لا قدّر الله، وتأثير ذلك على الأردنيين المنقسمين حيال الحملة، مع إدراكهم في الوقت عينه للخطر الداهم عبر الحدود؟
الاتجاه الثالث، يعكس هيمنة الدعاية الإعلامية الداعشية المدعومة بقدرات تحريرية وتلفزيونية فنية عالية، تحمل صورا وتسجيلات، وتنشر أخبارا عبر الفضاء الافتراضي، لغسل عقول عرب ومسلمين مهمشين. علما أن ربع الشعوب العربية -أكثر من 80 مليون شخص- لهم حسابات على "فيسبوك".
يروج "داعش" لأفكاره بالاتكاء إلى نظرة أحادية للدين الحنيف، مستغلا هذا التنظيم لهفة البعض إلى نجاح تجربة دولة الخلافة، لأنها برأيهم ستحكم بما أنزل الله، وتفرض عدالة ومساواة بين المواطنين.
بغض النظر عن هذه التوجهات الثلاثة، لا نستطيع إنكار حقيقة أساسية: مؤيدو "داعش" وأخواته لا يصدقون ما يقال عن إرهاب التنظيم إعلاميا وسياسيا في غالبية وسائل الإعلام التقليدي الخاص والعام، في الدول المشاركة والمساندة للتحالف. ولا يثقون بالدعاية الإعلامية المضادة التي لا تلتفت إلى الواقع: استغلال التنظيم للحواضن والرافعات الاجتماعية/ الدينية/ السيكولوجية المنتشرة في بؤر التعاطف الشعبي.
فتنظيم "داعش" -حال الإعلام التقليدي في غالبية الدول المشاركة- يستخدم أدوات الدعاية والإعلان، ويلعب على أوتار الحرب النفسية، إذ يقدم منتجا قائما على خلط المعلومات ومزجها، مع إضافة نكهات لرسائل جاهزة مدعومة بصور ونصوص تبدو حقيقية، خصوصا في غياب مصدر ثالث مستقل موثوق للمعلومة.
الفراغ الإعلامي وشح المعلومات الرسمية يساعد ماكنة الإعلام الداعشي على التمدد عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، مستغلا ميول المواطنين في مجتمعاتنا نحو تصديق الشائعة ونسج الحبكات وفقا لأهوائهم.
إزاء هذه التحديات السياسية-الإعلامية-المجتمعية، ماذا يمكن توقعه من السلطة الرابعة في دول تخوض الحرب على الإرهاب؟ هل يستطيع الإعلاميون الرهان على حدوث تغيير في عقلية المسؤولين بما ينهي احتكار المعلومة و"إملاء" الناس ما تريده النخب عبر استخدام أساليب تقليدية عفا عليها الزمن، تعود في الغالب إلى عهد الأحكام العرفية البائد؟ للأسف، لا. هل سيتجرأ الإعلام الحكومي على تحدي رواية السلطة وتقديم منتج أكثر توازنا؟ بالتأكيد لا. هل بوسع الإعلام التقليدي ذي الملكية الخاصة تقديم منتج أكثر احترافا وموضوعية في زمن الردة على "الربيع العربي"، تصنف فيه غالبية الحكومات وسائل الإعلام والعاملين فيها في خانة "إما معنا أو ضدنا في هذه الحرب" التي تحمل بالتأكيد كلفة عالية على حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، بينما يقف المجتمع المرعوب من فوضى ما بعد 2011 مع الاستقرار على حساب الإصلاح؟ الجواب: صعب، لكن ممكن؛ إذا أجرى من تبقّى من معشر المؤمنين برسالة وأهداف عمل "السلطة الرابعة" مراجعة ذاتية، وقرّروا الإجابة عن سؤال مفتاحي: هل نقف بجانب الحكومة في السرّاء والضراء ونتكيف لحماية مواقعنا ونتجنب عقوبة قول الحقيقة، أم ننحاز إلى ضميرنا المهني ودورنا الرقابي على السلطات كافة، ونصر على حقنا في مساءلة متخذي القرار، ونؤدي واجبنا كحارس للمجتمع من تغول الحكومات، قارع جرس الإنذار في حال حدوث تجاوزات؟
للقرارين ثمن باهظ، بخاصة إذا كان من اختار مهنة المتاعب يعمل في أخطر منطقة في العالم.
بعد الإجابة عن هذا السؤال بوضوح، على الصحفيين الحريصين على صون مهنيتهم واستقلاليتهم، أن يفكروا في الخطوط الحمراء التي سيعملون ضمنها، بما فيها حدود ما يقبلون أن يقوموا به وما لا يقبلون. ذلك لا يعني أن الإعلامي خال من المسؤوليات؛ عليه الابتعاد عن الكذب والتضليل وتشويه الحقائق، والعمل وفق معايير الدقة والمهنية. وعليه أيضا دفع حدود الحريات المتاحة ورفع هوامشها. فمن حق الأجيال المقبلة أن تعلم بما جرى، ومن فعل ماذا، ولمن، ولماذا، وكيف، وأين.
فالإعلامي المحترف سيقرر شكل المجتمع وحدود حرياته، ومحتوى نسخة التاريخ الأولى التي يكتبها الإعلاميون في العادة. ومن يختار النكوص عن أداء دوره، حاله كحال الطبيب الجراح المحترف الذي يخفق في علاج مرضاه. فمساهماتنا الاحترافية ركن في تثقيف المجتمعات، ورافعة للديمقراطية ودحض خطاب التكفير والجهل والماضوية. كما تساهم في وقف معزوفة "داعش" وأخواته التي تلعب على أوتار الدين والعرق والهوية.
ولا بد من التعامل مع "غارات" داعش الإعلامية بمزيد من الحريات، وليس من خلال التعتيم وكتم الحقائق. الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي تزداد قوة وتأثيرا في الرأي العام، وتشكّل وسيلة فاعلة لتجنيد إرهابيين وبث الفكر التكفيري.
المعركة مع "داعش" ستطول. لها شق عسكري جوي، وربما بري، بالتزامن مع تحديث خطاب المساجد ومناهج التعليم، لمحاربة الأيديولوجيا التكفيرية التي تتغلغل في أحشاء المجتمع. وعلى الإعلام الرسمي والخاص التقليدي -حال المسؤولين- تطوير إدارة معركة الدعاية والتعامل مع الأزمات بشفافية أكبر ومهنية أعلى واستباق الأحداث. آن الأوان لوقف محاولة تقرير حال التعبئة المعنوية المجتمعية بأساليب كانت تنجح زمن الأحكام العرفية، قبل أن تطيح ثورة المعلوماتية بكل المسلمات.