بعد فشل الجانب الفلسطيني في الحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال مدة أقصاها نهاية العام 2017، تقدمت السلطة الفلسطينية بطلب للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، موقعة على ميثاق روما الذي يعد الخطوة الأولى في هذا المجال، وبما يمهد الطريق أمام المحكمة لمحاكمة أشخاص بتهمة ارتكاب جرائم حرب في حالات معينة، أهمها عدم رغبة (أو قدرة) الدول الموقعة على الاتفاقية في محاكمة هؤلاء الأشخاص على أراضيها، باستخدام نظامها القضائي المحلي.
رد الفعل الإسرائيلي كان عنيفا، وهدد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بإجراءات انتقامية عديدة. لماذا؟ لأنه في حين تستطيع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة فقط الانضمام للمحكمة، إلا أن من الممكن للمدعي العام الدولي للمحكمة اعتبار فلسطين دولة بعد توقيعها الميثاق، وبما يتيح لها التقدم بطلبات لمحاكمة شخصيات سياسية وعسكرية إسرائيلية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، في غزة مثلا وغيرها. وبالرغم من العقبات الكثيرة أمام تحقق مثل هذا السيناريو، إلا أن مجرد وجود فرصة لتحقيقه، يثير قلقا واضحا لدى إسرائيل. ويدعي بعض المحللين الإسرائيليين أن السلطة الفلسطينية لن تقوم بذلك، لأنها قد تفتح الباب لمحاكمة شخصيات فلسطينية ارتكبت أيضا جرائم حرب من وجهة نظر المجتمع الدولي. لكن، لا أعتقد أن ذلك سيثني "السلطة"؛ إذ لم يعد لديها الكثير لتخسره، إضافة إلى أن أي محاكمات لإسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، سيضع إسرائيل في عزلة دولية أكبر بكثير مما تعرفه اليوم، وقد يغير قواعد اللعبة، بغض النظر عما إذا كانت هناك محاكمات لفلسطينيين.
الموقف الأميركي الذي هدد الجانب الفلسطيني بإعادة النظر في العلاقة معه، لأنه يقوم بإجراء أحادي الجانب بدل الالتزام بالمفاوضات، كان متوقعا، وإن فاحت منه رائحة الازدواجية. أليس بناء المستوطنات، غير القانونية بحسب القانون الدولي ورأي محكمة العدل الدولية، هو إجراء أحادي أيضا، غير ملتزم بالمفاوضات؟ لم لم تهدد الولايات المتحدة بإعادة النظر في علاقتها مع إسرائيل بسبب سياستها الاستيطانية الاستعمارية اللاأخلاقية؟ نعرف الجواب طبعا. لكن، لم يعد من المنطقي إلزام الفلسطينيين بمفاوضات لم تؤد، بعد أكثر من عشرين عاما، إلى إنهاء الاحتلال، بينما وأدت السياسة الاستيطانية الاسرائيلية الأمل بدولة فلسطينية قابلة للحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
يذكرني الموقف الأميركي بالضغوط التي مورست على الأردن لعدم توقيع الاتفاقية الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية. ويشرّف الأردن أنه ضمن 122 دولة وقعت على الاتفاقية حتى الآن، وكان من أوائل الدول الموقعة، والدولة العربية الأولى التي صادقت على التوقيع في 11 نيسان (أبريل) 2002. إذ لم يستجب جلالة الملك لبعض الآراء داخل الدولة/ دفعت باتجاه عدم التوقيع. كما لم يستجب لضغوط إدارة الرئيس بوش (الابن) المكثفة ضد الانضمام، بسبب القلق من محاكمة شخصيات إسرائيلية. وزاد الأردن فخرا أن تبوأ سمو الأمير زيد بن رعد منصب أول رئيس لمجموعة الدول الموقعة على ميثاق روما، في الفترة 2002-2005.
قد لا يؤدي التحرك الفلسطيني الأخير إلى نتيجة مباشرة. وقد تواصل إسرائيل تماديها غير عابئة بالمجتمع الدولي. لكن، قد يساهم هذا التحرك في تغييرالعقلية السائدة بشأن كيفية حل الصراع. فقد مرت حقبة من الزمن كان يمكن فيها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بالمفاوضات، لو تم الالتزام بمرجعية واضحة للحل، وسقف زمني، وآلية دولية لمراقبة تنفيذ الأطراف المعنية لالتزاماتها، كما نصت على كل ذلك خريطة الطريق الدولية. أما اليوم، فمن دون مثل هذه الآلية، وبسقف مفتوح للمفاوضات، فقد صار من الواضح أن هذه المفاوضات تستخدم ذريعة من قبل إسرائيل لخلق حقائق استيطانية يومية على الأرض. وبالتالي، حان الوقت لاستراتيجية جديدة من قبل الجانبين الفلسطيني والعربي، توقف التركيز على مفاوضات مفتوحة الأجل، وتعتمد مقاربة أخرى هدفها رفع كلفة الاحتلال على إسرائيل؛ ماديا ومعنويا وأخلاقيا، بشتى الوسائل السلمية الممكنة. إن أجدنا فعل ذلك، فقد ننجح في تغيير قواعد اللعبة الحالية التي تصب في مصلحة إسرائيل، آنيا.