الشاعرة زليخة ابو ريشة تكتب مقال جريئ جدا : هل الأردن تالياً؟؟ (وجهة نظر ثقافية )

يختلف الأردن عن تونس ومصر العربية في أنَّه نظام ملكي، أي أنه مدى الحياة وقائم على التوريث. وهذا اختلاف جذريٌّ جعل الأردن وشعبَه بمنأىً عن ثورات غضبٍ بهذا الخصوص من التي عرفها الشعبان التونسي والمصريّ، ذلك أن قضيتي الحكم مدى الحياة والتوريث في نظام جمهوريّ قد تفاعلتا تفاعلاً سلبياً في هذه المجتمعات، رافقهما فساد عظيم وإدارة غبية واستهتار بحقوق الإنسان واستبداد في كل شيء، حتى انفجر بركان الغضب.
وإذا ما كان الشعب الأردني ليس منشغلاً بموضوع نوع النظام، ملكياً كان أم جمهورياً، لأنه ليس حسَن الظنِّ بالجمهوريّات العربيَّة أصلاً، فإنَّه ليس بمنأى عن الغضب للاستهتار الطويل الأمد بحقوقه، وللفساد المستشري في المال والإدارة، وقمع حرياته، وتراكم الثروات في أيدٍ قليلة بينما سائرُ الشعب في المسْغَبَة. ولذلك فإن الأردن مرشَّح للَّحاق بتونس ومصر وليبيا بقوة، ويا للهول إذا أصبح شعارُه 'الشعب يريد إسقاط النظام'!!!. ومع أن التوريث والحكم مدى الحياة لم يكونا ـ في الأنظمة الجمهورية - سوى مظهرين فقط من مظاهر الفساد والاستبداد، فإنَّ الأمر برمته إنما هو ثورة على الأخيرَيْن. ولذا فلا ينبغي على نظامٍ ملكي ـ أي نظام ـ أن يطمئنَّ إلى أن الثورات لن تخلع بابه، وخصوصاً أن قبضته من حديد!!
غير أن قبضة الحديد تلك هي بالذات التي ستكون أقوى الأسباب لخلع أبواب السلطة مهما تتحصَّن. فقد رأينا كيف أن كفَّ حبيب العادلي وذراعه وكتفه قد تساقطت جميعاً قبل أن يسقط مولاه. فلا استبدادَ يدوم، كما لا خوفَ إلى الأبد! وهذا ما تحدِّثُنا به ثورة ليبيا على طاغية الطغاة المعتوه والممثل الفاشل، والكاتب المخبول، والمجرَّب في جنون العظمة، وفي عدد من أخطر الأمراض العقلية والأخلاقية.
الملك عبد الله الثاني ليس القذافي وليس زين العابدين ولا مبارك ولا بوتفليقة؛ فهؤلاء آلهةٌ تمشي على الأرض، مع أنه كان منهم والبلطجي وقاطع الطريق شكلاً وموضوعاً. والملك عبد الله الثاني الذي نشأ في بيتِ تهذيبٍ رفيع وتواضع حقيقي عزَّ مثيلُهما بين أهل السلطة، ينتمي إلى جيل الشباب، جيل الثقافة الرقمية واللغة الجديدة والذهنيَّة العصريَّة، ويفهم ما تعنيه الشفافية وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعيَّة وخط الفقر والمساواة والحريَّات العامة والمجتمع المدني والحكم الرشيد والمساءلة. ولذا فإنَّ خُطَبه وكتبَ التكليف حفلت بهذه المعاني، حتى لأدهش أنه في كتاب تكليفه الأخير لم يترك شاردة ولا واردة من عناصر الحكم الديموقراطي والإصلاحِ إلا ذكره، دون أدنى تحفُّظ عهدناه في الخطاب الرسميّ، بل إنه لم يُحِل المظاهرات التي طالبت بإسقاط الحكومة السابقة والحالية في بلده إلى 'قلة مندسَّة' أو'أصابع خارجية' (كما فعل الحاكمان المتنحِّيان وذاك الذي ما يزال يجري المذابح على أرض بلده)!! ولم يتردَّد أن يُقيلَ حكومة الرفاعي السابقة، ويشيرَ في كتاب التكليف التالي إلى إخفاقها ومن سبقها في الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي دعاها إليه، وكلَّفها به. ولم تتلوث يده ـ وكذلك يدُ أبيه ـ بدم أي أردني، وليس في حُكمه معارِضٌ يخشى على نفسه فيعيش في الخارج.

ومع ذلك فإن النظام السياسيَّ في الأردن (والآن لا أتحدث عن النظام الملكي) نظامٌ تسلطيٌّ وفاسد. وليس الملك عبد الله الثاني مسؤولاً مسؤولية كبيرة عنه، لأنه ببساطةٍ ورثه هكذا. وقد وجد الملك الأردني الشاب نفسَه مضطراً إلى التعامل مع هذا النظام القائم على حكم المخابرات وسطوتها المطلقة، وعلى العشائرية المتخلفة (تلك التي تحكم بالقرابة والوساطة والثقل العشائري، واعتبار الولاء للعشيرة، وأنها هي المعيار لا المواطَنة بمفهومها العصريّ).
لقد اكتسب الملك مع الوقت حِكمةً تُذكرُ له، ولكن ليس منها أن يتقوى جهاز المخابرات على الشَّعب، وذلك بانتهاج سياسةِ أن يحتلَّ جميعَ مواقعِ القيادة والسفارة والإدارة والأقسام والمؤسَّسات والوزارات (معظم الأحيان) أشخاصٌ يعملون مخبرين لدى الجهاز (ومعظم الأحيان بلا خبرة ولا كفاءة، وسأضيف: وبلا أخلاق!!)، بينما أهل الإخلاص والمقدرة يُدحرون في الزوايا المعتمة!!! بمعنى آخر: إنَّ من تمام الإصلاحِ (الذي لن أخوض في جوانبه الأخرى الآن) أن يعاد النظر سريعاً جدّاً في القيادات الحكومية الراهنةِ جميعها (وكذلك التعيينات والترفيعات)، ووضع الشخص المناسب/ ة الكفيّ / ة والصالح / ة يداً وعقلاً وخُلُقاً، والمنفتح / ة على التغيير، والمتمكِّن / ة من أدواته. وإذا كنتُ لن أضمَّ صوتي إلى صوت الشخصيّات العشائرية ذات البيان الشهير، لأني ببساطة لا أملك الدليل على ما ادَّعته، ولا الرغبة في أن أوافق على المنطلق الإقليمي البشع الذي تخرُجُ من مستنقعه، فإني ـ وإذ لم يبق من عمري قدْر ما مضى ـ لأرى أنَّ ليس أمام الملك من خيارٍ سوى ثورة بيضاء يقوم بها هو نفسه، فيأمر بإعادة هيكلة الدولة بالأصوات الحرَّة المعارضة وشباب العصر من أصحاب الرؤى، وينظِّف البلد من تلك المستهلَكة التي ما برحت تنافق وتنافق وتنافق النفاقَ الرَّخيصَ والغَثَّ، وخصوصاً النفاق الإعلامي الذي يظهر على صفحات الجرايد وعلى شاشة التلفزيون الحكومي، محتفياً بعيد جلوس أو عيد ميلاد جلالته، بأكثر وسائل التعبير بدائيةً وتفاهةً وسطحيَّة. فإنه لا يزيد من محبة الشعب لمليكهم (أو أي شخص آخر يُحتفى له) أن يستمعوا إلى الغناء الساقط وقصائد المديح الملفقة من أكثر المشاعر كذباً، تلك التي تُنفَق عليها الأموال وتقام الاحتفالاتُ إظهاراً لولاءٍ رأينا كيف تخلى عنه المتحولون والمتلونون المستفيدون بين ليلة وضحاها في تجربتي تونس ومصر!!!!
فلو كنتُ أملك من الأمر ما يملكه الملك الشاب لمنعتُ بقرارٍ ملكي كلَّ أشكال الثناء والمديحِ والاحتفال التي تُزجَى إليه على أنها الحبُّ والولاء، ولأمرتُ أن تُحذَف من قاموس السياسة والإعلام عباراتٌ بعينها (كتلك التي أشار إليها وتشبه: ثمة أوامر من فوق!!) تحاول جاهدة أن تُغطي على مضمونها الفارغ وفسادها. فالقاصي والداني يعلم ما في الإعلام الرسمي والإعلام الخاص الجبان من صور الولاء الكاذب الذي يتسلق إلى مصالحه ومكتسباته غير المشروعة. فلم أستمع إلى من يسرف في الثناء على سُلطة إلا كان يغطي على خللٍ هائلٍ في أدائه، أو فسادٍ عظيم.
ومن جهة ثانية، لا بدَّ أن يظهر القَصْرُ، بجميع أفراده، في أكثر مظاهره تواضعاً (low profile)، منسجماً مع الخاصيَّة الفطريَّة في الملك (التواضع)، بعيداً عن حياة الإعلام، وأقل بروزاً على صفحاته، وبلا صور عامة مستفزَّةٍ في الحجم والمضمون. فالحبُّ والاحترام لا يحتاجان إلى هذه الأشكال من الانتماء البغيض، بالإضافة إلى أن دول الطغاة فقط هي التي تمتلئ بهذه المظاهر، الطغاة الذين قال فيهم التاريخُ كلمته ومشى!!!. فالشعوب لن تنسى منظر تحطيم تمثال صدام، ولا منظر رفع صورة مبارك الضخمة!! ولا الإقامة الذليلة للأخير في شرم الشيخ!!!
فالشَّعبُ الأردنيُّ لا يريد انقلاباً. يريد فقط أن يُعمِل الملك حكمته ونزاهته!!! يريد له أن يكون 'العدل أساس المُلك' عند مليكه، لا المخابرات ولا العشائرية..
أكتب هذا الكلام دون أن أخشى أن يبطش بي!! وأنا أعلم أن المخابرات لن تستدعيني، وأن الحيز الثقافي الذي أتحرك فيه لن يتأثَّر منعاً وإقصاء. وإني فقط أردتُ إيصال صوت أهل الثقافة إليه.
ثم إن هذا ينطبق على بقية الحكام العرب لا شك..
دعونا لا نفقد الأمل....
شاعرة وكاتبة من الأرد