إلى أين نذهب؟!
العام 2014 يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهي لحظة يحتاج معها المرء إلى أن ينسحب قليلا من التفاصيل، ليتمعن في المشهد الإجمالي. وأقول سلفا إن التدهور الفظيع من حولنا لم يترك للمشاعر الإيجابية مطرحا، ولا حتى لمسحة من مشاعر التفاؤل بالمستقبل التي تحركها مناسبة قدوم سنة جديدة.
هل يمكن أن تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ من الواقع الراهن؟! نعم، يمكن. إذ يمكن أن نشهد المزيد من الاستقطاب الطائفي والعنف، وطحن الثقافة الوطنية والديمقراطية والمدنية والإنسانية وقواها المتواضعة بين المعسكرات الرئيسة التي تسيدت المشهد.
إن قصّة واحدة صغيرة تلخص حقيقة ما حدث في السنوات الثلاث الأخيرة. أتحدث عن اللاعب الرياضي السوري عبدالباسط ساروت، حارس مرمى فريق الكرامة والمنتخب الوطني للشباب لكرة القدم، والذي انشق على النظام وأصبح مغني الثورة، بعد أن ورث إبراهيم القاشوش؛ مغني الثورة السلمية الأول، وصاحب أغنية "ياالله ارحل يا بشار" الذي طارده النظام وقام بانتزاع حنجرته ورميه في النهر.
لم يكن عبدالباسط سلفيا متطرفا. وكنا نراه أثناء الثورة السلمية في الميادين يلهب الحماس بالأناشيد للحرية، بمعان وطنية وإنسانية نبيلة، وإلى جانبه الفنانة فدوى سليمان، وفتيات وشباب يرفعون فقط علم سورية، ويهتفون بشعارات الحرية والتغيير. ثم مع تزايد القتل، انضم إلى الجيش الحر، وحمل السلاح في حمص.
انتهت الثورة السلمية وتصاعد العنف، وقتل إخوة عبدالباسط، ودمر النظام حمص، وانهزم الجيش الحر. ثم ظهر مؤخرا عبدالباسط يعلن انضمامه لتنظيم "داعش".
ليكن "داعش" صنيعة أميركية أو إيرانية أو تركية أو قطرية، أو كل هؤلاء معا؛ أيا تكن الجهات الخارجية، فإن التنظيم هو الصنيعة الأخيرة للقمع الوحشي للثورة السلمية، واندحار قيم الحرية والديمقراطية والمدنية، أمام القسوة والبشاعة والبطش. وقد كان النظام يقصد حرفيا القضاء على الثورة السلمية وعلى قواها المدنية والديمقراطية، ليكون خصمه السياسي المقابل هو التطرف والإرهاب فقط، وسيكون هذا المعسكر بالضرورة سُنّياً. وهذا ما حدث أيضا في العراق في مواجهة القوى الشيعية-الإيرانية، حيث انتهى البعث القديم والجيش القديم في صفوف "داعش".
وفي اليمن، حاول علي عبدالله صالح اتباع نفس السيناريو. وتمددت "القاعدة" أثناء الثورة. لكن الضغوط العربية والدولية كانت أسرع في تنحية الرجل. وتأتي المفارقة المعاكسة؛ إذ يتواطأ صالح الذي بقي يحتفظ بقوة عسكرية ومالية، مع الحوثيين، وهم امتداد المعسكر الشيعي-الإيراني. فيحتل الحوثيون صنعاء والمناطق التي تسيطر عليها الدولة، ليصبحوا في مواجهة مباشرة مع "القاعدة"، بينما يبحث الجنوبيون عن الخلاص في الدعوة مجددا إلى الانفصال. وانتصار الحوثيين في اليمن سيشجع القوى الشيعية في السعودية والخليج. أي أن مخاطر تمدد الحريق واشتعال مناطق جديدة، ضمن عملية استقطاب رئيسة بين التطرف الديني الشيعي والسني، قائمة، وعلى هامشها ستبحث كل فئة أخرى عن الاستقطاب والتسلح وحماية نفسها على خلفية إثنية أو دينية أو جهوية، والدخول في تحالفات مصلحية من أي نوع ومع أي جهة.
نعم، يمكن أن يقع الأسوأ. ومشاهد الوحشية والعنف الداعشي يمكن أن تستمر وتعم، وينخرط الجميع فيها، كما يحدث في جميع الحروب الأهلية. ولذلك، لا مكان للسلبية والتفرج والتردد، ولا جدوى من التخمينات السقيمة حول حقيقة اللعبة.
إن الرؤية التي عبر عنها جلالة الملك تصيب كبد الحقيقة، وتعبر عن مصلحة المنطقة ودولها وشعوبها. والحرب الراهنة على "داعش" هي بؤرة المواجهة الأوسع. والنصر هنا هو مفتاح التحول وإخماد أي جبهات جديدة ستنفتح. ما يشارك به الأردن اليوم هو حرب عسكرية سياسية ثقافية اجتماعية، لدرء التدهور الأوسع والأشمل، والتحول إلى مستقبل أفضل.