"الربيع العربي" وإعادة تشكل النظام العربي
بالإضافة الى كل التحولات السياسية الناجمة عما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"؛ كتغير بعض الأنظمة السياسية، والنزاعات المسلحة داخل بعض الدول، فإن مما لا شك فيه هو أن من أهم ضحايا تلك التحولات انهيار النظام العربي، ممثلاً بالجامعة العربية.
ويجب أن لا يفهم أن النظام العربي كان فاعلاً وفعالاً قبل فترة "الربيع العربي"، بل كان يعاني من الفرقة بين الدول، إضافة إلى افتقاره لآليات ومقومات تنفيذ السياسات أو القرارات التي تتخذها "الجامعة". لكنْ، كان هناك على الأقل حد أدنى للتفاهمات والعلاقات بين الأنظمة والدول ضمن حدود متفاهم عليها.
لقد جاء "الربيع العربي" وأجهز على النظام العربي، وأضعف "الجامعة" إلى حدود غير مسبوقة. وخرج كثير من الدول من دائرة التأثير في قرارات "الجامعة". لقد بدأ الضغط على النظام العربي وشكل بداية الانهيار، انهيار النظام في مصر، وانشغاله بترتيب أموره في المرحلة الانتقالية التي شهدت تجاذبات سياسية حادة بين الأطراف الفاعلة والقوى السياسية، ما أدى إلى إخراج مصر من التأثير الإقليمي الفعلي.
لكن أعتقد أن الأزمة السورية والصراع المسلح الذي اندلع بعد الثورة، نتيجة ردة الفعل العنيفة من قبل النظام، كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير. وكان ذلك نتيجة لانحياز بعض الأطراف العربية المؤثرة ضمن منظومة الجامعة العربية، للمعارضة السياسية والعسكرية، وإصرارها على ضرورة تنحي الأسد عن الحكم، ومحاولة استصدار قرار أممي بالتدخل العسكري في سورية، والقضاء على النظام عسكريا. وبعد رفض الأسد التخلي عن الحكم، وعدم القدرة على استصدار القرار الأممي المُشار إليه سابقاً، ألغت الجامعة العربية عضوية سورية، واعترفت رسمياً بالمعارضة ممثلاً للشعب السوري وقطعت العلاقات مع دمشق. أضف إلى ذلك انهيار النظام الليبي، وخروج ليبيا من دائرة التأثير. وكذلك حال اليمن نتيجة لأوضاعه السياسية الداخلية.
إن انهيار المنظومة العربية فتح الشهية والمجال للدول الإقليمية والدولية المؤثرة لمحاولة التأثير في حالات "الربيع العربي" أولاً، وفي إعادة تشكيل النظام العربي الجديد الذي هو في طور التشكل، ثانيا. فإيران وتركيا دخلتا حلبة المنازعات الإقليمية والداخلية بشكل علني، واتخذتا مواقف مع الفاعلين السياسيين للتأثير على نتائج التحولات، وبسط سيطرتهما ونفوذهما على مناطق محددة في الدول المجاورة وغير المجاورة. والبعد الأيديولوجي أيضا لم يكن غائباً في الصراع، فقد وجدت الدول العربية نفسها منقسمة في هذه الصراعات أيضاً. أما إسرائيل، فقد لعبت دور المتفرج علناً، لكنها تعمل بشكل نشط في غرفة التحكم الخلفية، بالتعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة والدول الغربية وبعض اللاعبين الاقليميين. وفي كل الأحوال، فإن مصلحة إسرائيل كانت دائماً معياراً للسياسات الغربية نحو "الربيع العربي"، وبخاصة في مصر وسورية.
على الساحة العربية، بقيت دول مجلس التعاون الخليجي الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي العربي، لكن لم يكن لديها موقف موحد من القضايا كافة، ما أبرز دور دول بعينها، وجدت نفسها في معسكرات متناقضة أحياناً. وأضعف غياب الموقف الخليجي الموحد قدرته على التعامل مع تعقيدات المشهد العربي وتعدد لاعبيه.
لقد شكلت عودة مصر تحت قيادة عبدالفتاح السيسي، وبداية تجاوز دول الخليج لخلافاتها حيال بعض الملفات الإقليمية، وخروج بعض الدول معافاة وسليمة من آثار "الربيع العربي"، بداية مهمة لإعادة بلورة تحالف عربي أكثر فاعلية. إضافة الى ذلك، فإن التحالف الدولي الذي تشكل بعد بروز تنظيم "داعش" وتمدده في سورية والعراق، والتهديد الذي يشكله لهذه الدول والمنطقة، هيّأ البيئة والأرضية لبروز نظام عربي جديد. والنظام العربي الجديد تعاد صياغته ليس فقط من قبل الدول العربية، وإنما من اللاعبين الإقليميين والدوليين المعروفين، ومن قبل الأطراف السياسية في دول الصراع.
ليس من المعروف بعد حجم التأثير العربي في تشكل هذا النظام. لكن بروز بوادر تحالف عربي تقوده دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، إضافة إلى مصر والأردن، يمثل خطوة مهمة وضرورية للتخفيف من قدرة اللاعبين الإقليميين والدوليين على تحديد مستقبل المنطقة وشكلها، ولكنها لن تكون قادرة على استبعادها تماماً.