الاستثمار والاغتراب
بلغت تحويلات المغتربين الأردنيين في الخارج حوالي (3,6) مليار دولار، حسب الاحصائيات الصادرة للعام المنصرم، ويقيم معظم الأردنيين المغتربين في دول الخيج العربي، بالإضافة إلى أقطار أخرى، ويحظى هذا الموضوع باهتمام المسؤولين الأردنيين لما يشكله المغتربون من أهمية اقتصادية على مدار سنوات طويلة.
الناظر المدقق في أحوال المغتربين الأردنيين في الأعم الأغلب يجد أنهم من أصحاب التخصصات العلمية، والمستوى العلمي المتقدم، ومن أصحاب الخبرات الفنية العالية، لأن الأردن تعد إحدى الدول المستوردة للعمالة المتدنية وغير المتعلمة، فهناك تقديرات تشير إلى وجود مليون عامل مصري، ينخرطون في أعمال البناء والزراعة والحراسة وغيرها بالإضافة إلى أنواع أخرى من العمالة السورية والعراقية والسودانية بدرجات متفاوتة، حيث تقدر تحويلاتهم السنوية بما يزيد على (400) مليون دولار سنوياً إلى خارج الأردن.
ما ينبغي الالتفات إليه في هذا السياق أن تحويلات المغتربين الأردنيين في الخارج تقدر بـ (10%) من انتاجهم الحقيقي وما يقدمونه من جهد في اعلى تقدير ، بمعنى عندما يكون المبلغ المحوّل (3,6) مليار دولار، فهذا يعني بحسبة بسيطة أن انتاجهم الحقيقي يعادل (36) مليارا ويزيد، لأن الإسهام العلمي والفني التقني الذي يقدمونه يعد ذا قيمة عالية، وبعضهم يذهب إلى أن القيمة المادية تفوق هذا الرقم بكثير، هذا يدفعنا إلى القول أن الدول الغنية تعيش على عصارة أدمغة الشعوب الفقيرة، وتعمد إلى أخذ الثمرة بأقل الجهود وأبخس الأثمان.
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ومعظم الدول الأوروبية المتقدمة، فتحت بلدانها للهجرة المقننة المحسوبة بدقة، حيث عمدت إلى استقبال الكفاءات وأصحاب الشهادات العلمية والذين يتمتعون بمستويات علمية رفيعة، من أجل الاستفادة من علومهم وخبراتهم عن طريق استيعابهم في جامعاتها ومعاهدها ومؤسساتها العلمية، وفي شركاتها ومختبراتها ومصانعها، مما كان لهم دور كبير جداً في الإسهام في نهضتها العلمية والاقتصادية، بينما يكون مردودهم على بلادهم الأصلية ضئيل جداً جداً، لا يساوي شيئاً مقابل العطاء العلمي والعملي في بلاد الاغتراب.
يقول أحد الخبراء في هذا المجال متحدثاً عن المغتربين الأردنيين، ان الاردن يتعرض لخسارة مادية ومعنوية كبيرة لا تقدر بثمن، حيث أنها تفرّط بإنسانها المتعلم وتدفع بثمرات أكبادها بعد تدريسهم والانفاق عليهم ليصبحوا عاملين في دول أخرى، بدلاً من وجود خطة استثمارية بعيدة المدى تعمد إلى ضرورة الاستثمار في الإنسان الأردني والعقل الأردني في صناعة اقتصاد وطني قوي، وانتاج ذاتي أصيل، من أجل الإسهام في تطوير الأردن وتحديثه، وجعله بيئة جاذبة وليست بيئة طاردة.
ليس هناك أغلى ثمناً من الإنسان المتعلم، وليس هناك ثروة حقيقية تعادل ثروة الموارد البشرية الوطنية الخالصة، مما يجعل التفريط بهذه العقول وهذه الخبرات والكفاءات يشكل خسارة فادحة يصعب تقديرها، مقابل ثمن بخس، ولذلك فإن مهمة العقلية التخطيطية للدولة يجب أن تتوجه إلى توطين الكفاءات الوطنية وتشغيل عقول أبنائها والاستثمار في انسانها، في بناء الإنجاز الوطني الكبير، لأن نزيف الأدمغة المستمر، ونزيف الكفاءات العلمية المتخصصة إلى الخارج سوف يؤدي حتماً إلى إلحاق ضرر استراتيجي كبير في البنية العلمية للدولة والمجتمع، وبعد ذلك سوف يلحق الضرر بالبنية الاقتصادية والاجتماعية ايضاً على المدى البعيد، وهذا ما حدث فعلاً.