وبعكس البنى القبلية، تعتمد المجتمعات الحديثة في تنظيمها على تقسيم العمل، وترابط الأدوار والتخصصات الدقيقة التي يتوقع من جميع الأفراد أداؤها بكفاءة وعقلانية. حيث يتم التدريب على أداء الأدوار في مؤسسات التعليم الأساسي والجامعي والمعاهد، بالإضافة إلى وسائل الاتصال والتنظيمات التي تعنى ببناء الإنسان، وإكسابه القدرة على أداء المهام التي يختار النهوض بها في مسيرته العملية.
وبالرغم من انتشار التعليم والإقبال عليه؛ وظهور عشرات الجامعات والمعاهد والمؤسسات التي وجدت لإحداث التغيير وإدامته، وتنمية المجتمعات وتحسين شروط تقدمها، إلا أن مجتمعاتنا العربية تأخرت في الانخراط الجدي في نماذج التحديث، وأبقت على خيار القبلية في التنظيم والإدارة والقيادة، ما ولد لدى كثير من الشباب المؤهل للعب أدوار حداثية، ميلا إلى تبني وتمثل أدوار الشيوخ في المؤسسات التي حلوا فيها، أو شهية لترك هذه المهن وهجرها والتخلي عنها، لحساب الأدوار التقليدية التي تمنحهم سلطة وصلاحيات أوسع في صناعة القرارات، حتى وإن افتقروا إلى الخبرة والمعرفة في الميادين الجديدة.
في بلادنا، هناك الآلاف من حملة درجة الدكتوراه، من غير أفواج خريجي جامعات آخرين ممن أطلقوا على أنفسهم الألقاب العلمية أو اختطفوها وهم في مواقع عملهم، كجزء من عمليات الإصلاح، أو رغبة في أن يكون لأسمائهم إيقاع يوحي بأنهم جددوا أنفسهم ليكونوا أهلا للمواقع التي حلوا فيها.
وخلال الرحلة العملية، اكتشف البعض أن قلوبهم ما تزال حية، حتى وإن شاب شعر رؤوسهم أو تبدلت أسنانهم؛ إذ ما يزالون شديدي البأس والعزيمة، مثل النموذج الذي صورته أغنية فهد بلان: "لو شاب شعر الرأس.. ما شاب قلبي.. شديد قوي البأس.. سيفي على جنبي". ويتوزع غالبية الأكاديميين على الجامعات التي تخضع غالباً لسلطة المحسوبية والمال والصلات مع بعض الجهات النافذة، أكثر مما تحكمها الكفاءة والعقلانية. ويوجد أعداد لا بأس بها منهم في البيروقراطية وسلطات التشريع والإدارة والهيئات المستقلة وغير المستقلة، إضافة الى القطاع الخاص والمؤسسات الدولية والإقليمية المنتشرة على طول البلاد وعرضها.
خلافا لصورة الأكاديمي في العالم الحر، ولما كانت عليه صورة الرواد من حملة الدرجات العليا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، يشعر غالبية الأكاديميين بتواضع المكانة الممنوحة لمهنهم، وتدنيها على سلم الشهرة والتقدير، مقارنة بمهن الساسة والمشرعين والمدراء ورجال الأعمال، ما يدفع بالكثير منهم إلى البحث عن وسائل لتخليصهم من مهنهم، ونقلهم الى مواقع خارج أسوار الجامعات ومختبرات البحث وغرفهم الصفية.
ولأكثر من خمسة عقود، عملت الدولة على استقطاب الأكاديميين ودمجهم في هياكلها الحكومية والتشريعية والاستشارية؛ فقد احتل ثمانية رؤساء للجامعة الأردنية مواقع وزارية، إضافة إلى عمداء وأساتذة، بحيث تحولت الجامعات إلى أهم المصادر التي تُملأ منها شواغر الحقائب الوزارية والنيابية وغيرها. كما شكلت بعض الكليات في الجامعات المصدر الأول للمواقع الوزارية، مثل كلية الزراعة في الجامعة الأردنية، التي تناوب عدد من أساتذتها على إشغال حقيبة الزراعة في حكومات متعاقبة.
في الأردن، تشكل المواقع الأكاديمية مهنا مؤقتة للبعض من الأكاديميين الذين يعملون في الجامعات، وعيونهم على الوظائف القيادية التي توفرها الدولة. وهم يتسابقون، لا بل يتدافعون على إشغالها للتخلص من الأدوار الأكاديمية التي تبدو أقل شهرة وجاذبية للكثيرين منهم.
مطلع السبعينيات من القرن الماضي، كان العمل في الجامعة جذابا للأساتذة الذين نظر لهم المجتمع بكثير من التقدير. وباستثناء بعض الذين بدا عليهم الاغتراب في الوسط الجامعي وحياته الغنية، كانت الأسرة الجامعية تشكل نخبة المجتمع وطبقته الأكثر شهرة وترفا وربما مكانة. وبدا الأساتذة أكثر تعلقا بالمهنة التعليمية وتفضيلا لها على المواقع السياسية والإدارية التي تمنح سلطة وشهرة أكثر. أما اليوم، فيوجد المئات، لا بل الآلاف من الأكاديميين الذين يسعون إلى مغادرة أجواء الجامعات والبحث والتدريس، ويتمنون أن يبدلهم الله دراهمهم بدنانير. فظاهرة الدكتور الشيخ تسيطر على فضائنا الأكاديمي، وتصبغه بصبغة عشائرية. والجاه أهم لهم من العلم، والنفوذ أهم من المعرفة.
قد لا أبالغ إذا ما قلت إن نزعة المشيخة لدى الأكاديميين والمثقفين هي أهم وأخطر الأمراض الاجتماعية المسؤولة عن تأخرنا عن ركب المسيرة الإنسانية.