الحاجة إلى تكتل عربي تنويري
خلال حفل عشاء أقامته مؤسسة التعاون في عمان قبل بضعة أيام، لتكريم أحد مؤسسيها؛ الراحل الفلسطيني الكبير سعيد خوري، ألقى رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة خطابا في غاية الصراحة. استذكر فيه روح سعيد خوري المبادرة العصامية التنويرية، وعمله الدؤوب لخدمة المجتمع الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، قارن ذلك بفشل الحكومات العربية، منذ الاستقلال، في بناء الدولة المدنية الحديثة التي تمارس الحكم الرشيد، وتعظم قيم المواطنة، وتعالج مشاكل البطالة والنمو الاقتصادي والاجتماعي. ودعا السنيورة إلى إصلاح النظام التربوي والخطاب الديني، وتساءل بمرارة: كيف وصلنا إلى حال أصبح العرب فيها يُعرفون في الخارج من خلال "داعش" و"القاعدة" والتطرف؟
هذا كلام مهم، يصدر عن مسؤول عربي سابق متنور، حاول في بلاده، رغم كل الصعوبات، تطبيق الحكم الرشيد. وهو يذكّرنا بمسؤولين عرب آخرين، كرئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض الذي حارب الفساد بضراوة، وحاول بناء دولة فلسطينية معتمدة على أبنائها وبناتها، رغم كل ظروف الاحتلال الإسرائيلي البغيض.
للأسف، تبقى الشخوص التي يمثلها السنيورة وفياض قليلة في الوطن العربي. وقد تعودنا على شخوص همها الأكبر البقاء في دوائر الضوء الرسمية، من دون حملها أفكارا أو مشاريع تنويرية من شأنها نقل العالم العربي إلى الحداثة؛ سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وبناء المؤسسات القادرة على تحقيق ذلك.
اليقظة العربية الأولى في العالم العربي المعاصر بدأت بنهضة فكرية في القرن التاسع عشر؛ طالبت بضرورة الاستقلال والحكم الرشيد وتمكين المرأة والانفتاح على الآخرين. وقد وجدت هذه النهضة طريقها إلى حركات شعبية حققت الاستقلال لبلدانها، لكنها فشلت في جلب الديمقراطية للعالم العربي. وقد بدأت اليقظة العربية الثانية بحركات شعبية لم تجد طريقها بعد لأطر فكرية تحدد الأهداف المستقبلية، ولا تكتفي بالخلاص من المستبد.
من الصعب الاعتماد على الحكومات العربية لبلورة مثل هذه الأطر الفكرية، لأن معظم شخوصها اليوم منشغلون بامتيازاتهم، وغير قادرين على إدراك أن العالم العربي تغير، وأن الوضع القائم باحتكار السلطة غير قابل للاستمرار. كما أن العقلية الأمنية ما تزال هي المسيطرة على عقولهم. أما تغيير الأنظمة التربوية وإصلاح الخطاب الديني واقتراح الأطر الفكرية التي تضمن الحداثة والازدهار، وتنفيذ السياسات التي تحقق ذلك، فهو آخر هموم معظم القيادات الرسمية في الوطن العربي، وكأن دروس الثورات العربية وظهور التطرف في أبشع صوره، لم تعلمهم شيئا.
لكن الساحة لا ينبغي أن تترك فارغة من مثل هذه الأطر والمشاريع التنويرية في عالمنا العربي، لأن الفراغ الحالي تملؤه قوى التطرف والظلام. وإن عجزت أو قصّرت المؤسسات الرسمية في إضاءة الطريق نحو مجتمعات تنويرية، فهل نأمل من بعض التنويريين العرب، من شاكلة السنيورة وفياض، ممن استلموا مناصب رسمية ويدركون العقبات التي تقف أمام التقدم نحو الحكم الرشيد أكثر من غيرهم، بناء نوع من التكتل العربي غير الرسمي، الذي وإن كان لا يستطيع أن يكون حزبا بطبيعة الحال، فإنه يمكن أن يشكل نوعا من الكتلة الحرجة التي تعد بمثابة ثقل معنوي وأخلاقي، تساهم في رسم أطر فكرية من أجل مستقبل حداثي تنويري؟ وعلى الرغم من أن الشخصيات التنويرية في العالم العربي لا تشكل حالة شعبية بعد، إلا أنها ضرورة لقيادة المجتمعات في تجاوز حالة التطرف المنتشرة، لاسيما في المجتمعات التي قد لا تتوافر فيها عناصر الوعي بحقوق المواطن العربي، والتي هي وحدها تشكل حصانة لمواجهة سياسة التجهيل التي تقودها حركات أمثال "القاعدة" و"داعش" وغيرهما.
الرد على التطرف لا يتم بترسيخ وتعظيم الدولة الأمنية، وإنما ببناء الدولة الحديثة التي يشكل فيها الأمن عنصرا مهما لضمان الاستقرار، لكنه لا يسيطر على عملية صنع القرار، بل يسير بالتوازي مع مشروع تنويري حقيقي يطال العامة، وتنعم بفوائده مكونات المجتمع كافة.