الــنــداء الاخـــيـــر !
في مِزاج ٍ حَلـَّت فيه الكآبة محل الحنق ، والاسى محل التهجم حاولت ان اعود للكتابة ثانية بعد ان اوقفني عنها مسلسل مرض زارني في الضوء والظلمة حاملا معه كل تداعياته وتنقلاته الى ان شـُفيت منه تماما. "والشفاء من عند الله".
•أجَلـْتُ الطرْف في ما حولي بحثا عن عنوان ولكني لم اهتدِ الى شيء – وفي مثل عجز الطائر المهيض الجناحين ظلّ بقوادمه وحوافيه المهشمة محاولا على غير طائل ان يطير. ماذا ساكتب ؟ وقد اجتمعت عليّ ظلمة اليأس وعتمة الاكتئاب وانا أرى شمس امة جنحت مسرعة الى الغروب.
-فإذا كان شيء من الهزل قد اعتراني فليس ذلك الا بسبب قلقي وانا استشعر ارتباكا مزعجا، فالحاضر أصبح غامضا وغريبا، واما المستقبل فلم استطع أن أكوِّن عنه عن طريق الاجتهاد والتخمين ايما صورة.
-فمنْ خلال الشغف المتوهج في ارجاء وطننا الكبير كافة، والهدير المباح هنا وهناك ، وتبلبل الافكار ، فلا بدّ ان يكون لاصطراع الاحداث المتراكمة نغير ما بعد أن عجزت الى النفاذ الى حقيقة معناها ومبتغاها برغم انني لا احكم على الامور بمظاهرها.
-كنت مفعما بضروب الخواطر الحبيسة مع الربيع المتعجّل وقد تسلل الى الميتم برغم ان رماده المتراكم لا يزال يتوهج بالحرارة – ألا فهو أشبه شيء بركام من وقود مضطرم متحفـِّز يطلق الشرر ثم غدا الركام اسود قاتما. لقد بدا لي وكأن رباطا غير منظور قد انفصم.
•ففي مجتمع الشجيرات العربية بكياناته السياسية التي عُريتْ من اوراقها وعلى نحو غير ارادي راحت نظرتي الذاهلة تستطلع الاعماق التي كشفت عنها وكأنّ اصيلها الغائم قد جنح نحو غسق ٍ كئيب . ما عاد لشعوبنا استنارة ورغبة في التغيير والتجديد ، والمناداة بالديمقراطية والاصلاح أضحت جريمة.
•فالمطر ُ يقرع كل النوافذ العربية والرياح تعوي في كل صوب ، وقياداتنا العربية صهرت جميع مطامح شعوبها في مطمح واحد ألا وهو محاربة "الارهاب" ! فنقلت في ذلك عوالم الجهل السياسي مكان المعرفة غير المستبانة ، والخرافة محل الدين .
-هم أذنوا لنا بالارهاب وهم صانعوه – لنحاربه ونتلهى بمحاربته جوّا وبعد حين برا لنستنزف القوى ومنْ ثمّ يأتون لنا بخرائطهم الجديدة.
•لقد كانت افكاري التي تراودني لا تفتأ تطفو مترددة بيني وبين ما اكتب ، وأنا أرى عُشبَ الربيع العربي القصير وقد أذبله صقيع ما زرعوا من إرهاب بمختلف مسمياته واصوله وتأجيج الصراعات المذهبية هم قاموا بها ، وتفتيت المجتمعات العربية التي غلب عليها النزوع الى الاصطلاء بالنزوح والهجرة والسخط والتطرف .
•انني وأرى المستقبل ليبدو في اعيننا كالح الوجه بشعا وجدت من الخير لي ، بعد شيء من الروِّية أن اعتصم بالصمت في ما يتصل بما هم يخططون له لهذه الامة بمعتقداتها وكياناتها الآن وبعد حين . هم قتلوا طموحات هذه الامة مثلما فعلوا بها قبل مئة عام .
•فإذا ما تغلبت على الهستيريا الجائشة في نفسي لأرى ما يدور حولي من كوارث ، والانفعال قد استنفذ قواي كمواطن قومي عربي وانا ارى شركة فتح المساهمة المحدودة مازالت عاجزة مشلولة لا عمل لها سوى اجهاض الحاضر وتعتيم المستقبل خدمة لكوادرها وبقائها من دون قضية تبرز انسانيا وتعاطفا من جديد ولكنْ عبر ابواب اخرى ، وضروب الحرمان الفكري في التزايد لا النقص ، والتضخم لا التفاؤل.
ومع ان الشعور بالعزلة عن الكتابة كان امرا تعوّدته وألفته فلم يوقع في نفسي كثيرا من الاسى لاعوضه بالمزيد من المطالعة الا انني اقول (لا) – لن اعتصم الصمت ، فانا ومثلي الكثيرون لم نمت بعد ! فهو مصير أمة بكاملها – تلاعبوا بها قبل مئة عام ولن تسمح لهم شعوبنا العربية بإعادة الدور ثانية .
•قالها مليكنا الشاب للصحافة الاميركية بكل جرأة وصدق وصراحة ، وكشف دافع الاحداث وحدّد اسبابها ومجرياتها بكل دقة ووضوح . اقول – لماذا اندحرت مليشيات المالكي وقواته في الموصل والرمادي وديالا والبغدادية ….؟ و أنني اتساءل لماذا ظهرت قوى الارهاب في سورية من دون سابق انذار ؟ هل لنا ان نقرأ ونحلل الاسباب لهذا المد الرجعي لعلنا نجد حلولا ناجعة تتزامن مع التفسير العام؟
-فالخلافات المذهبية الشيعية السنية المتعمقة والتي كان من المفروض ان تسقط بالتقادم جاءت لنا بالمليشيات المسلحة من كل جانب والتي اذكى نارها الاستعمار القديم في ثوبه الجديد لافراغ المنطقة من مضمونها العربي القومي والرمي بها الى اتون المعارك الجانبية والكراهية المستدامة .
-ما ذنب اهل السنة اليوم بدهاء عمرو بن العاص في قضية التحكيم واستيلاء معاوية على الحكم؟ وما ذنب اهلنا واخوتنا واحبتنا اهل الشيعة بقمع ثوراتهم وكثرة معاداتهم ؟ فالاسلام واحد والقرآن واحد والامة العربية والاسلامية واحدة ، ومسيحيونا هم القصبة فيها "فلا إكراه في الدين" .
قال عمرو بن العاص قبل وفاته: "اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا ، ولا يسعُنا الا عفوك يا أرحم الراحمين".
•امْ اننا امام امة ما عاد حكامها يكترثون بها – امة كانت تحوم حول كعبة واحدة وإذ بها يحوم كل فصيل منها حول كعبته.
-أمة ما عادت تكترث باقتسام بلادها ضمن استراتيجية مدروسة وفي مرحلة مشؤومة مقبلة ستنكشف معالمها ومن ثمَّ يبدأ الانقضاض السريع على جغرافيتها واغتصابها ثانية، "فلا خولان تتحالف مع ردمان" – وما لها الا البكاء والعويل ونحن نجيده عبر العصور والهزائم ، كما اننا نتقن التصفيق والتبجيل . ما عادت هناك أرضية قومية تجمع ولا تفرق ، وما عاد دين يوحد ولا يقسم الى فرق متقاتلة . في مايو عام 1539 ماتت الملكة ايزابيلا وما ان وصل موكبها الى المدينة حتى انضّم العديد من النساء المسلمات واخذن يصرخن ويمزقن شعورهن وعباءاتهن حزنا عليها.
-أمة تمزقت اوصالها واندثرت طموحاتها فاصابها الوهن والضعف فتفرقت كلمتها وتمكن بها الارهاق ، فانهارت،، وما عادت خصما مزعجا للاستعمار الجديد القديم – فهل ستؤخذ لقمة سائغة؟
-إننا حقل تجارب لهم ، وسوقا استهلاكية لهم ، ومرتعا خصبا لآلتهم العسكرية وتجارة الاسلحة لشركاتهم العملاقة. فهل من ربيع عربي يُجدد البيعة لشعوبنا العربية ويعطي اشراقة الامل من جديد. ؟
•انه نداء القومية العربية في إطارها الديني المحافظ – هو وحده حربنا ضد الارهاب المصطنع ، والتفرقة المقيتة، والتشرذم الذي تفشـّى ، والاستبداد الذي تقوّى.
" وما كان الناسُ الاّ أمَّة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبَـقت من ربك لقـُضي بينهم فيما فيه يختلفون" صدق الله العظيم.