الأبعاد الجيوسياسية لـ"الغاز الإسرائيلي"
كتبت "نيويورك تايمز"، أمس، تغطيتها للحديث عن صفقة غاز أردنية-إسرائيلية تحت عنوان "غاز إسرائيلي لإنقاذ السلام". وبدأت المقال بمشهد عن إنذار بهجوم بصاروخ على محطة لنقل الغاز الطبيعي على ما قالت إنّه "ساحل إسرائيل". ونقلت كيف ركض العاملون إلى ملجأ صغير يستخدم أيضاً كنادٍ صحي رياضي، لكن تبين أنّ التحذير من "صاروخ حماس" كاذب. ثم تمضي الصحيفة إلى "أنّ الغاز هو أداة جيوسياسية وهدف في إسرائيل"، وأنّ اكتشاف هذه المصادر الطبيعية يقدم فرصة لتحسين العلاقة مع كل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وكلّها "جائعة للطاقة" بحسب تعبير الصحيفة. وما تورده الصحيفة يعني أنّ تهديد أمن هذه المنشآت من المقاومة الفلسطينية قد يعني تهديد أمن واردات الطاقة للدول التي تستورد منها.
توضح الصحيفة أنّ شركة "نوبل إنيرجي" في تكساس بالولايات المتحدة، هي المسؤولة عن استخراج وبيع هذا الغاز. لكن هذا لا يعني تقليلا للسياسة في الموضوع. فبحسب الصحيفة، لدى الشركة "استراتيجية تصدير تشجعها إدارة (باراك) أوباما لتقليص التوتر في المنطقة". وتقول الصحيفة إنّ وجود الشركة الأميركية مهم "لتقديم غطاء للقادة الذين يمكن أن يواجهوا ردود فعل سياسية غاضبة بإبرامهم صفقة مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية".
اللافت في المقال، عدا عن صراحته في أنّ الغاز المكتشف حديثاً له "وظيفة جيوسياسة"، أنّه مصدر خطر. ويقول المقال إنّ نصف العاملين في محطة الغاز في "تامار" هم عناصر أمن، والمحطة أشبه "ببطة جالسة" معرضة لنيران الصيادين. كما يُشير المقال إلى أنّ "الغاز الإسرائيلي" في السياسة الأميركية قد يعني مصدر غاز لأوروبا، يغنيها عن الغاز الروسي. وتكشف الصحيفة عن أنّ عملية الصفقة الراهنة بين الأردن وإسرائيل قد نوقشت وبودر لنقاشها مع الأردن من قبل وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون. وتقدم الصحيفة تفاصيل لا تقل عن تفاصيل أي مفاوضات سلام، وكيف مثلا انتقلت المفاوضات بين بيت السفير الأميركي في الأردن ولندن، وكيف تعرضت المفاوضات لأزمات تمّ تجاوزها.
هذه المعلومات والتحليل من "نيويورك تايمز" سبقتها تحليلات ومعلومات أخرى. فمثلا، نقلت "واشنطن بوست" عن أميت مور، المسؤول عن شركة "أكو إنيرجي" ومقرها تل أبيب، أنّ "المضامين الجيوسياسية لهذه الصفقة أكثر أهمية من المكاسب الاقتصادية الكبيرة". ونقلت الصحيفة عن مصادر إسرائيلية أنّ مبعوثا خاصا لجون كيري هو عاموس هوخشتاين، تابع الصفقة وتوقيعها.
إذن، سياسة الغاز هذه التي يشرف عليها الأميركيون باهتمام، ليست مجرد توفير طاقة بالغاز، بل هي جزء من رؤية عالمية أميركية تصل حد تقليل أهمية الغاز الروسي لأوروبا. وفي أيار (مايو) 2012، كتبتُ مقالا في "الغد" عن تحالف عسكري يوناني-إسرائيلي "لحماية عمليات التنقيب والاستخراج القبرصية للغاز"، والتي تديرها "نوبل إنيرجي" أيضاً. وكيف أنّ التحالف القبرصي اليوناني-الإسرائيلي موجه ضد تركيا، التي تطالب بحصة لقبرص التركية الواقعة تحت حكمها. وإذا كانت تقارير تقول إنّ واشنطن تريد هذا الغاز في إطار مواجهة مع روسيا أيضاً، فإنّ موسكو تسعى لدخول المشهد بالتحالف مع اليونان، وأن تصبح جزءا من الصفقات. وكتبتُ حينها أنّ لبنان يعتقد أنه شريك في الثروة الغازية، خصوصاً في مساحة تقدر بنحو 850 كيلومترا مربعا من الحدود البحرية، ويتنازع عليها مع إسرائيل، ويتوقع أن فيها مصادر غازٍ ونفط كبيرة، وأنّه بمواجهة محاولة الحكومة اللبنانية الوصول إلى اتفاقيات مع قبرص، فإنّ الأخيرة طلبت نقاش المطالب اللبنانية ضمن إطار ثلاثي يضم إسرائيل.
إذن، فالبعد السياسي والجيوسياسي للصفقات واضح، ويطغى على الشق المالي والاقتصادي. والواقع أن الأمر لا يحتاج لهذه المعلومات جميعها، فنظريات العلاقات الدولية جميعها تؤكد أنّ تعزيز التجارة بين بلدين يقلل فرص الخلاف بينهما، وقد يدفع إلى تناسي ملفات خلافية أخرى. لكن في حالة الطاقة، فإنّ هذه تصبح اعتمادية. وحتى في الولايات المتحدة، بكل "جبروتها"، هناك تيار قوي يتحدث عن "الإدمان" على النفط العربي وخطورته.
إذن، يجب النظر إلى صفقة الغاز مع "نوبل إنيرجي" ضمن حجمها الجيواستراتيجي الكبير والواسع.