ثقافة الحرب
في مشهد تلفزيوني صادم جداً، تظهر مغنية رقيقة، وأكاديمي، وممثلان كوميديان شهيران، في إعلان ترويجي لبرنامج مسابقات فنية باستخدام أدوات قتالية، وهذا يشير الى الدرجة التي بلغتها الذهنية العربية من العسكرة والميل للعنف، لدرجة أن صارت دائرة الخيال ومفردات التعبير حتى الفنيّة تختار المسدس والرشّاش لإعلان يفترض أنَّه مَرِحْ!
وهو مشهد خارج عن المألوف، لكنَّه للأسف ليس مفاجئاً لمن يقرأ التحولات الاجتماعية التي انتابت الحال العربية، وواكب باستمرار ما يحدث للطفل العربي مثلاً، حين تكون لعبته المفضَّلة "الحرب”، والزي الذي يختار أن يتصوَّر به في يوم العيد هو لباس العسكر!
حتى أن حالة التجييش التي دفعت المواطن العربي دائماً، وبإلحاح، لاختيار موقف ما "يتخندق” خلفه، ويستميت في الدفاع عنه، عملت على تحويل المدنيين كلهم الى "عسكرٍ مؤجلين” يضمرون حرباً ما، وجعلت حتى هتافهم حين يبالغون في الحب أو يتطرفون فيه هو "بالروح .. بالدم”، وهو أغرب تعبير عن الحب عرفته اللغات البشرية!
وربما لم يكن هذا جديداً على الثقافة العربية؛ التي دائماً ما حفلت بتعبيرات متناقضة؛ مثل أن يكون التعبير عن الحب المفرط بالقول "بموت عليك”، أو "بموت فيك”، أو "بموت من الفرحة”، .. لكنَّها خطوات جديدة للخلف، تدفع بثقافة العنف الى الواجهة، وتقضي على آخر مساحة ممكنة للودّ وهي "الفن”.
ومع غضّ النظر عن ماهيّة البرنامج نفسه، ومستواه أو قيمته، لكنَّ الترويج للفن بسلاحٍ اوتوماتيكي مشهد يصيب بالغثيان، في توقيت يحتاج المشاهد العربي الى يد تمتد لتنشله من غابات الأسلحة والعنف التي تخنقه من كل الجهات، لا أن تسدَّد الى رأسه بندقية باليد التي يفترض فيها أن تنحاز للإنسانيّ فيه وتوقظه!
والأمر حتماً لا يتعلق بفنّانين صوَّروا اعلاناً ومضوا الى شأنهم دون ان يلتفتوا، لكنَّه يتعلَّق بماكينات التفكير، وما اصابها في ظل تحول المجتمعات العربية، أو للدّقة، عودتها الى القبلية المتحاربة، والى ثقافة الغزو، والسبي، والقتل، .. والحِراب الموجهة طبعاً للداخل المتشظي والموزَّع والمقسَّم وليس للعدوّ.
هذه المجتمعات المتشاجرة، المتحفّزة للانقضاض، تحتاج الى من يحثّها على العودة الى مدنيّتها، والى من ينمّي روحها لا أظافرها، وأن يبشّرها بالطمأنينة لا مَن "يُعسكر” أغنياتها وينقل العنف الى مسرحها وشعرها ومعارضها التشكيلية .. كما يحدث بشكل مؤسف الآن. وتحتاج من يصفّق لثقافة الحياة لا ثقافة الحرب، وأن التعبير عن الحب هو "بعيش عليك” وليس "بموت عليك”، وأن أدوات القتل لا يمكن تقديسها بشكل من الأشكال أو تحويلها لأيقونات!
من حق الأطفال، الذين يولدون في ظل الحرائق العربية الممتدة الآن، أو الذين ولدوا قبلها ويعيشون في مخيمات حدودية كثيرة، أن يعرفوا ان العالم ليس مجرد معركة كبرى أو منازلة بين عدوّين، وأن ثمة الكثير الكثير في هذه الحياة يستحق أن يكبروا أسوياء من أجله، وأن لديهم ما سيفعلونه لاحقاً إن نجوا، وأنهم ليسوا منذورين لحربٍ أخرى تنتظرهم، وأن كون البندقية بيد مطربة رقيقة لا يحوّلها لشيء آخر سوى أنَّها أداة للقتل!