عندما يسيطر البلطجية والطغاة على الإعلام
وضع عميد الصحافيين الاستقصائيين تيم سيباستيان في افتتاح ملتقى شبكة أريج السابع في عمان يده على جرح غض ما زال رطبا، وبدا الرجل غارقا في تفاصيل الشأن الإعلامي العربي وواقع الحريات الصحافية، ومدركا ربما أفضل من العرب أنفسهم لمشاكلهم.
وهو خيّر الصحفي بين قول الحقيقة وممالأة الحكام، كان مباشرا ولا يتجمل، معيدا توصيف الصحافي من جديد، فأما أن تكون صحفيا يقول الحقيقة أو أن تمضي حياتك المهنية متسكعا في رحلة البحث عن المناصب والمواقع ورضا السلطان.
يريد سيباستيان للصحافي أن يكون «حارسا يقظا على مصالح المجتمع»، محذرا من أن الصحافة في المنطقة وصلت إلى نقطة حرجة، ومنبّها إلى أن «إغلاق منابر الإعلام الحر واحدا تلو الآخر سيترك صناع القرار دون محاسبة لعقود قادمة».
وحذّر من اصطفاف الصحافة الحرة على امتداد المنطقة، بقوله: «إذا لم يكن لدينا صحافة حرة، كيف سيكون لدينا مجتمعات متسامحة؟ هل لاحظتم كيف يموت التسامح في هذه المنطقة، وفي مناطق عديدة من العالم»؟
هذا الجملة الصحافية المكثفة هي تشخيص لواقع الإعلام العربي بعد ما يسمى «الربيع العربي» والانتكاسات التي حدثت في بعض الدول العربية حيث تحول الإعلام إلى جهاز من أجهزة السلطة التي تستطيع أن « تشيطن» وتحول كل إعلامي حر يختلف مع وجهة نظر السلطة إلى عميل وجاسوس ومخرب وقاصر عن فهم المرحلة.
ووجدت عبارته الرائعة «نرى غالبا مجموعات من البلطجية أو المليشيات أو الطغاة، يقررون ما نشاهد وما نقرأ وما نسمع، طاردين وجهات النظر البديلة. يخبروننا أنهم وحدهم من يمتلك الحق في تقرير طريقة عيش المجتمعات»، وكأنها توصيف دقيق ومختصر لحال إعلامنا العربي، وهي عبارة على أي حال تمثلني تمثيلا دقيقا وأصطف إلى جانبها وأدافع عنها بشراسة.
ثم قدم نصائح للصحافيين: «لا تكذب، ولا تتعمد إخفاء الحقيقة (...) كن منصفا، وانظر في جميع جوانب القضية أو الجدال، كن دقيقا والتزم بالمعايير الصحيحة».
وهي نصيحة نكررها أيضا لبعض الإعلاميين العرب الذين نسوا رسالتهم الحقيقة وتحولوا إلى جلادين لزملائهم الإعلاميين الذين يقولون رأيا مخالفا للسائد، وباتوا يصادرون حق المجتمع في الاختلاف مع السلطة ومع رؤيتها لكثير من القضايا الكبيرة والصغيرة على حد سواء.
ماذا يتبقى من أي إعلامي حين يدافع عن القتل ومصادرة الحريات والانقلابات العسكرية والتراجع في المسار الديمقراطي، وحين يقلل من أهمية نتائج على صناديق الاقتراع!
إلى أين تلجأ الحقيقة حين تحاصر بسيل من الأكاذيب والادعاءات والتخويف في كل مكان في الصحافة المطبوعة وفي المواقع الإلكترونية وفي شبكات التواصل الاجتماعي، من سيقوم بحمايتها من أبناء السلطة الرابعة الذين يفترض بهم أن يكونوا حراسا يقظين مرابطين على تخوم الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة؟
ما قاله سيباستيان جرس إنذار في سماء الصحافة العربية، لكن من هم الذين سيوقظ هذا الصوت ضمائرهم؟ دعونا لا نتفاءل كثيرا فحجم الاستقطاب العربي لم يترك مجالا للحقيقة حتى للتنفس الطبيعي.