حين تتحقق للمواطنة دعائمها

من المفترض أن تنظر الدولة في فكر العامة وسلوكياتهم وممارساتهم بقدر نظرها في أمنهم ومعاشهم وأحوالهم، ففكرهم هو وسيلة تعبير عما يموج داخلهم من أفكار سوية أوغير سوية، معتدلة أو غير معتدلة، ولا  ربما غير متوازنة تؤدي في أسوأ حالاتها إلى الأخطر من المواقف، بحيث   أفكارهم  تفصلهم فريقين، جانب ينظر إلى الآخر نظرة التنافس السلبي فيحاول إقصاءه من باب الكيد له ومن ثم يخلق ظروف لاستغلاله مادياً لحل المشكلات الكبرى المترتبة على حالة الإقصاء، وجانب يشعر بالغبن وقد كان عاموداً صلباً لانجاح مجتمع والارتقاء به وخلق أجيال ترتقي في علمها ومعاشها لتكمل مشوار النجاح بنجاح، وعلى هذا يرى أنه لا يستحق أن يكافأ بالتنكر لولائه وإخلاصه ولا يستحق إلغاء جهوده..  فالنفوس كما الجسوم تمرض وسرعان ما تحول مرضها إلى فيروس ينتشر كأي مرض معدي، من أسوأ آثاره أنه يحدث تآكلاً في العقل ويلغي شعور التماسك والوحدة لفئة محددة يمتلك أصحابها قابلية الإصابة بالعدوى بغض النظر عن درجاتهم العلمية، فمثل هذا المرض غير معصوم على تجاوز عقول أهل العلم، لأنه يصيب العقل القابل لتلقي الفيروس حسب قوة مناعة الحالة النفسية، ومن الخطر على الدولة وحكومتها أن ينقسم الناس إلى فريقين يخزن كل منهما النوايا السلبية للآخر، وهنا فإن الأضرار لا سمح الله تصيب أول ما تصيب الوطن ومواطنه من الجانبين، لأن الفريق المقصي يجد نفسه مدفوعاً لانطفاء وهج الانتماء تدريجياً وتضعف بالتالي إنتاجية الاقتصادية، وفريق يأخذه إستئساده مآخذ الهيمنة ويتحول إلى متقاعس يفقد خبرته العملية ويركن إلى الاستغلال والاستفراد، فتقل هو الآخر انتاجيته معتمداً التنفع عن طريق وسائل فاسدة من خلال أداء تسهيلات مقابل أجور مالية،  فتتراجع النسب في مستوى المواطن المعيشية بتراجع الاقتصاد، ويتمادى الفاسد بفساده

 

المواطنة الحقة هي أن تستشعر حس الانتماء للوطن فتخشى على سلامته وتحافظ على أمنه وتلاحم شعبه، وليس من مصلحة أي وطن ولا يحقق أمنه إقصاء الآخر وتمزيق لحمة المواطنين،  والتفرقة بينهم، فالحس بالوطن من نفس قدر الحس بالمجتمع حيث المجتمع هو عماد وجود وسلامة الوطن، ومجتمع متلاحم يعني وطناً حضارياً سادراً في التحضر، وافتقاد  حس المواطنة معناه فئة تغذي نفسها بالعنصرية وتمارس ضروب مخاتلة النفس وغشها، فتتوهم اللا موجود وتقنع نفسها باللا حقيقي  رغم أن الساحة مهيأة دوماً للكفاءات وليس للمنكفئين، فيأخذهم خيالهم لضروب شتى تذهب بهم مذاهب الأوهام الغائمة وسط محيط ملئ بالدخان حيث الأشياء لا تكون واضحة تماماً

 

العنصرية مرض خطير يقسم الناس ويعبئ القلوب بالسيء من المشاعر ولذلك هي مكروهة ومذمومة، وقد أودت بشعوب وقضت على حضارات وخربت أوطان ، ومحقت أمن وأودت بسلام، وأبادت خلق، إضافة إلى تراجع الزمان بالوطن والمواطن، وقد حدث مثل هذا في زمن قريب في كل من دولتي لبنان والعراق، ولو ترك الأمر في دولة البحرين دون معالجة لحل الخراب بها كما حل بغيرها نتيجة العنصرة الذميمة، فالعنصرية تغذي النفس بالحقد والحسد والبغضاء، وتوقد الفتن وتأجج النفوس ، فيشعر صاحبها بالفوقية ويميز نفسه عن الآخر حتى وإن فاقة الآخر علماً وذكاءاً ووعياً وقيمة فكرية وانتاجية، وبدل أن ينافسه المنافسة الايجابية بحيث يرتقي بنفسه علمياً وأدائياً فيزداد العطاء والانتاج وتستغل الطاقة البشرية في التطور والتحسن وتتحقق الديمومة، فإن العنصري يصرف جل طاقته في ألاعيب الكيد ورسم خطط الإضرار بالآخر، وفي النتيجة نجده أول الخاسرين والوطن من المتأثرين، الأمن مفقود، والاقتصاد مدمر، والحياة الاجتماعية متردية، والقلوب محتقنة.

 

تمييز الذات عن الآخر تتمدد وتطول عدة محاور سياسية واجتماعية واقتصادية وصحية مما يشي بتراجعها جميعها، لأن نسبة من الناس قد لا تكون قليلة سوف تتأثر بإقصائها وحرمانها من حقوقها، فإذا ما سكتت الدولة عن مثل هذا الوباء وتركته يستشري ويتمدد فسيزداد الوضع تأزماً ويصبح الضرر جسيماً وموجه كاسحاً بعضه يلاطم بعضه  مسبباً الدمار، فالمحاصصة على أساس التمييز بين الشمال والجنوب وبين الوسط والأطراف وبين الأصول والمنابت والعرق والدين على منطق شبيه  بالكوتات معلنة أو غير معلنة من خلال تقديم الخدمات الاستثنائية أو حتى العادية على أساس الشللية والمحسوبية والمتعنصرة هو في حقيقته  تصنيع لنمطية مشوهة تذهب مذاهبها في توسيع مساحة الفرقة والتباعد حد الانشقاق الخطر، فالتأسيس لثقافة عنصرية مبعثه أحد أمرين، إما الاستغراق في ممارسات غارقة في الجهالة، أو تنفيذاً لأجندة استعمارية مدفوعة الأجر تهيء أرضية لسياسة فرق تسد، ينفذها مجموعة من الناس باعت نفسها خيانة ولحقتها جماعات غافلة مغرر بها، فتفتح باباً للشيطان يعيث فساداً وظلماً وإقصاءاً وتجسد حالة لانقسام وتمزق وهلهلة بنيوية تدفع الفئة المظلومة للغضب لنفسها وقد تستخدم الثورة لاسترجاع حقها، وهي حالة انزلاقية في كل الأحوال مبعثها أنانية جهة على حساب حق جهة أخرى

 

فالتمييز على أي من الأسس خطيئة غير مغفورة، لأنها أولاً وأخيراً تعارض النص الشرعي في القرآن الكريم، الذي منح المساواة للجميع، فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، ولا لكبير على صغير، ولا لغني على فقير، ولا لسيد على عبد، ولا يحق لعصبة أن تميز نفسها عمن سواها، فالشعوب لا تثور على المظالم من أجل أن تخلق مظالم، والنفس لا تجر نفسها في المزالق الأخلاقية لتمارس نرجسية ذاتية، فمن يغذي العنصرية هو مجرم خطير ومن المفترض أن يعامل معاملة المجرم الخائن، وحسبنا أن نتقبل بيننا من يأجج فينا الفتن ويوقد شعلة الانقسام، ووعينا ينفتح أمامنا بوضوح الرؤية ووضوح الهدف والمستهدف، فلا يجب أن ننسى أن الاتحاد قوة والتماسك  الاجتماعي صحة وسلام، والاجتهاد في العمل واستغلال الذكاء والطاقة لابتكار المشاريع الاقتصادية وانجاحها والانخراط في العلم والاختراع والتطور والارتقاء، وهي الوسائل السليمة التي تقود للتقدم وتعدم الخراب في مهده.