ساحر الغيوب

في افريقيا، توجد أكثر من عشر دول لا يوجد بها جراح دماغ وأعصاب واحد، لذلك قررنا في الاتحاد العالمي لجراحة الدماغ والأعصاب، وأنا نائب الرئيس، أن نعقد دورة تدريبية للأطباء الأفارقة في دولة أثيوبيا والتي سميت في السابق بلاد الحبشة نسبة إلى قبيلة «حتشبت» وهي قبيلة يمنية هاجرت بعد انهيار سد مأرب من اليمن إلى مرتفعات القرن الإفريقي. يذكر التاريخ أن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قد نصح مجموعة من أتباعه بالهجرة إلى بلاد الحبشة هرباً من الاضطهاد في مكة المكرمة، حيث استقبلهم «النجاشي» ملك الحبشة المسيحي، فأكرم وفادتهم ووفر لهم الحماية، مما جعل لمسيحيي الحبشة مكانةً عزيزة في قلوب المسلمين. من المعروف أيضاً أن أكبر مجموعة عرقية من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غير العرب كانت من الأثيوبيين ومنهم بلال بن رباح، مؤذن الإسلام الأول.
يبلغ عدد سكان أثيوبيا (وهي كلمة تعني صاحب الوجه ذو اللون البني المحروق) 93 مليون شخص، معظمهم تحت خط الفقر، ثلثاهم من المسيحيين الذين يتبعون الكنيسة المصرية القبطية ومنهم كذلك المسلمون السنة واليهود.
اشتهر يهود أثيوبيا (الفلاشا) من خلال عملية موسي وعملية سليمان وهما العمليتان العسكريتان اللتان قامت بهما اسرائيل لتهريب اليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى الساحل السوداني على البحر الأحمر حيث أقامت فندقاً وهمياً لممارسة هواية الغطس تحت الماء، لتجميع اليهود ونقلهم جواً وبحراً إلى اسرائيل.
حصلت أثيوبيا على استقلالها عن ايطاليا عام 1941 ومن زعمائها المشهورين الامبراطور هيلا سيلاسي والجنرال منغستو مريام الذي قاد انقلاباً عسكرياً ضد هيلا سيلاسي في فترة الانقلابات الإفريقية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي والتي شهدت ثورة الجزائر وثورة ليبيا وثورة الكونغو وباتريس لومومبا.
قبل عامين وصل الوفد الطبي المكون مني ومن طبيب ياباني وطبيب أميركي وثالث ايطالي إلى أديس أبابا (وتعني الزهرة الجميلة) وكان في استقبالنا أحد الأطباء الأثيوبيين الذي اصطحبنا إلى فندق متواضع. أخبرنا الأثيوبيون أنه لا يوجد لديهم موارد مالية لإسكاننا في فندق خمسة نجوم مثل شيراتون أديس أبابا (الاتفاق يقضي أن تدفع الدولة المضيفة تكاليف السفر والإقامة ونتكفل نحن محاضرو الاتحاد العالمي بوقتنا وجهدنا وعملنا).
تم عقد الدورة التدريبية في مقر الأمم المتحدة في وسط أديس أبابا وكانوا عند وقت الغداء يأخذوننا إلى مطاعمهم الشعبية حيث كنا نأكل اللحم والأرز من نفس الطبق الذي يوضع وسط الطاولة. بعد الغداء كانوا يأخذوننا في جولات لرؤية أديس أبابا وجامعتها المشهورة ومرتفعاتها وغاباتها حيث يهطل المطر فجأة فيركض الجميع للاحتماء، فالركض هو رياضة أثيوبيا المميزة. عرفت وشاهدت خلال هذه الجولات أن المرأة الأثيوبية تعمل في كافة المجالات كما علمت سبب تفوق العدائين الأثيوبيين مثل بيكيلا وهايلي جبرا وغيرهم في سباقات العشرة الاف متر وسباق الماراثون، لأنهم يتدربون على الهضاب المرتفعة فكل مدنهم تقع على ارتفاع 2400 متر فوق سطح البحر، حيث يقل الأوكسجين، لذلك تراهم يركضون بلا هوادة وبلا توقف أو تعب في كل مدن العالم خلال المسابقات الأوليمبية والعالمية. في رحلة طويلة مضنية أخذنا مضيفونا لمشاهدة بحيرة تانا شمال أثيوبيا حيث ينبع نهر النيل، أطول نهر في العالم، والنهر الوحيد الذي يجري من الجنوب إلى الشمال. تعتبر أثيوبيا التي تحتوي على أكبر احتياطي للماء في افريقيا، برج المياه الافريقي الأول لأن العديد من الأنهار تنبع من أراضيها.
يتكون نهر النيل من فرعين: النيل الأزرق (سمي كذلك نظراً للون مياهه التي تميل إلى الزرقة لأنه ينبع من بحيرة تانا) والنيل الأبيض الذي ينبع من البحيرات العظمى الإفريقية، حيث يمر مسار النهر في عشر دول افريقية هي: إثيوبيا، أوغندا، كينيا، تانزانيا، رواندا، الكونغو، بوروندي، جنوب السودان، السودان، مصر) وتسمى هذه الدول دول حوض النيل.
يلتقي النيل الأزرق مع النيل الأبيض عند التقاء الخرطوم مع أم درمان في السودان ويكمل طريقه ليصب في البحر المتوسط في فرعين، رشيد ودمياط.
تأخذنا طائرة العودة من أديس أبابا إلى الخرطوم ومن الخرطوم إلى القاهرة حيث نشاهد نهر النيل طيلة فترة الطيران ونستمع إلى شرح قائد الطائرة عن نهر عطبرة وعن الانحناء العظيم لنهر النيل من الجنوب إلى الشمال ثم إلى الجنوب مرة أخرى ثم إلى الشمال. عن نهر النيل، تذكرت قول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته «أيها النيل»:
والماء تسكبه فيسبك عسجداً    والأرض تغرقها فيحي المُغرَقُ
أما أجمل ما قرأت عن نهر النيل فهو ما قاله الشاعر المصري محمود حسن اسماعيل في قصيدة النهر الخالد والتي غناها الموسيقار محمد عبد الوهاب. يعتبر الشاعر أن نهر النيل ليس ككل أنهار الدنيا فهو واهب الخلد للزمان وهو ساقي الحب والأغاني وهو الذي على شاطئه الجميل يغازل الريح النخيل ويغني الطير ويشرح الحب للخميل. تقول كلمات القصيدة عن نهر النيل:
مسافرُّ زادهُ الخيالُ والسحرُ والعطرُ والظلالُ....
ظمآنُ والكأسُ في يديه والحب والفن والجمال....
شابت على ارضه الليالي وضَّيعت عمرها الجبال....
ولم يزل يَنشُد الديارا ويسأل الليلَ والنهارا...
والناس في حبهِ سكارى هاموا على شطه الرحيبِ...
آه على سرك الرهيبِ وموجكَ التائهِ الغريب...
نعم إنه ساحر الغيوب، النهر الخالد، الذي شربت من مائه مرة، فعدت إليه مراراً.