الشتم ليس سياسة (2)
أطلق توقيف نائب المرشد العام لـ "جماعة الإخوان المسلمون" زكي بني ارشيد على ذمة التحقيق على خلفية تجريحه لدولة الإمارات العربية المتحدة جدلا واسعا حول قانونية توقيفه قبل المحاكمة ودستورية التشريعات التي يقاضى وفقها. وهذا جدل صحي وضروري.
فالتوقيف قبل الإدانة مرفوض إلا إذا قرره القضاء درءًا لضرر خاص أو عام. والنصوص القانونية المُجرِّمة الكتابات التي تعكر صفو العلاقات مع دولة أجنبية فضفاضة حمّالة أوجه تحتاج تعديلات تُصيِّرُها محكومةً بتعاريف قانونية واضحة، ومنسجمة مع حق حرية التعبير الدستوري.
في ضوء ذلك لا يمكن التقليل من وجاهة الاعتراضات على التوقيف قبل الإدانة القضائية القاطعة واستنادا إلى تشريعات خلافية دستوريا وحقوقيا. غير أن قضية بني ارشيد ليست محصورة في البعد القانوني الذي سيحسمه القضاء. ثمة جانب سياسي أخلاقي يستوجب ذات القدر من النقاش.
فحق حرية التعبير لا يبيح استباحة الآخرين ذما وقدحا وشتما وتجريحا. ما كتبه بني ارشيد ضد الإمارات كان كل ذلك. وما قاله بحق الأردن سابقا وتكرارا كان أسوأ.
وهنا مكمن الاستغراب والإدانة السياسية. فنائب المرشد العام
لـ "الإخوان المسلمون" شخصية عامة في جمعية تقدّم نفسها الحزب السياسي الأكبر في البلد. وهذا موقع يفرض عليه مسؤولية الارتقاء بالسجال العام، لا الانحدار به نحو مُعيبات الشتم العقيم.
مفهوم أن يعترض بني ارشيد على قرار الإمارات تصنيف "الإخوان المسلمون" جماعة إرهابية. لكن ليس مفهوما أن يكون رده تشويها للقول السياسي العام، وتجريحا بعيدا عن الصدقية التي يفترض أن تحتويها المحاججات السياسية.
فموقعه في الجماعة يجعله قدوة على الأقل لمحزّبيها. فأين هذه القدوة من أخلاقيات العمل العام، ومن أدبيات قيادات "إخوانية" أخرى وسابقة، عبّرت عن مواقفها بصلابة ووضوح لكن بلغة سياسية حتى في أحلك أزماتها مع الدولة؟
وممارسة بني ارشيد العمل السياسي في الأردن تستدعي منه تقديم مصالح المملكة وأهلها على انتماءاته التنظيمية. شتم بلد عربي حليف للأردن يسانده ويقف معه في مواجهة ظروف داخلية وإقليمية غاية في الصعوبة لا يعكس الحرص اللازم على المصالح الوطنية.
ولا يعكس تجريح بني ارشيد للإمارات أيضا صدقية في وجه الحقائق. تصنيف الإمارات "الإخوان المسلمون" جماعة إرهابية ممنوعة من العمل على أرضها لا يجعلها دولة فاشلة عديمة الشرعية.
فعلى تلك الأرض قامت دولة تحتفل بعد أيام بعيد تأسيسها الثالث والأربعين. خلال هذه العقود القصيرة، حققت الإمارات نموا تنمويا واقتصاديا بين الأفضل في العالم، ودراسات للأمم المتحدة قالت إن شعبها هو الأسعد عربيا.
كما شيّدت الإمارات مجتمعا تعدديا منفتحا في الدولة العربية الوحدوية الناجحة الوحيدة في العصر الحديث. ينعم فيها مواطنون من حوالي مئتي جنسية، بينهم ما يقترب من مئتين وخمسين ألف أردني، بفرص العمل والإنجاز والعيش بأمن وسلام واحترام. والمساعدات الخارجية التي تقدمها هي الأعلى عالميا نسبة إلى ناتجها المحلي الإجمالي.
هذا ليس فشلا. لكن التعميم مهرب سهل من المحاججة في المحدد.
الخلاف في موضوع لا يبيح الانتقاص من حقوق الآخر ومنجزاته. فذات المنطق الذي لا يقبل توقيف بني ارشيد قبل إدانته قضائيا رغم الرفض الكامل لطرحه يوجب عدم قبول تجريج الإمارات والانتقاص من منجزاتها رغم رفض "الإخوان" تصنيفها لهم مجموعة إرهابية.
ومع هذا وقبله وفوقه، الشتم، مرة أخرى، ليس سياسة. واستخدام قياديّ حزبيّ الشتم وسيلةَ تعبير سياسي يدفع باتجاه تساؤلات ضرورية حول التشوهات الفكرية والأخلاقية التي تستبيح الفضاء السياسي العام، تحت ادعاءات الدمقرطة وحرية التعبير، وبدوافع تنظيمية ضيقة فجة.