الدب الروسي والحلم الأوروبي
الانضمام الأوكراني لحلف الناتو خطوة تصعيدية كبيرة، صحيح أن ذلك سيتطلب اجراء استفتاء شعبي بما يعني أن هذه الخطوة ستبقى عالقة لبضعة أشهر، ولكن آخر ما تسعى له موسكو هو تحويل القضية الأوكرانية إلى اصطدام مباشر مع أوروبا تختلط فيه السياسة مع الاقتصاد.
نعم، الرئيس الروسي بوتين غادر قمة العشرين غاضبا ويبدو أن إعادة تشخيص المواقف الأوروبية كانت سلبية للغاية، وجميع مناوراته بخصوص إعادة تعريف القضية الأوكرانية من جديد، وحصرها في مسألة الأزمة الداخلية والتراث الخاص بالحدود والعلاقات بين البلدين، كانت في النهاية غير مجدية أو منتجة.
الجانب المنتج في القضية الأوكرانية هو خسائر روسية تصل إلى نحو 140 مليار دولار سنويا، 40 منها يتعلق مباشرة بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، بينما الجزء المتبقي يتعلق بهبوط أسعار النفط على الرغم من احتدام المواجهات العسكرية التي تحيط بجانب كبير من ثروة العالم النفطية.
الروس لا يرون في المعادلة النفطية أي جانب منطقي، فالمفروض أن تتصاعد أسعار النفط عالميا، وأن يجنوا بالتالي جميع الثمار الممكنة لذلك على الجانب السياسي من المعادلة، وهذا ما كان يحدث كثيرا في العقدين الأخيرين، ولكن الحسابات الروسية أتت في غير موقعها، فمن ناحية، فإن توفر النفط الرخيص الذي يتأتى من مناطق الصراع نفسها، بجانب الكشوف النفطية الجديدة في المتوسط وغير مكان حول العالم، جميعها تعمل في إطار التضييق على روسيا، ليس في هذه التجربة وحدها، ولكن أيضا على المدى الطويل.
التوتر على الجبهة الروسية – الأوكرانية لن يكون بعيدا أو منعزلا عن مجريات الأحداث في سوريا أو ايران، فكثير من المحللين والمراقبين يرون أن الموقف الأوروبي لا يركز على أوكرانيا وحدها، وإنما يعمل في إطار حزمة متكاملة من الإجراءات تستهدف التخفيف من حدة القدرة الروسية على ممارسة الضغط على أوروبا.
نبوءة نوسترداموس حول النسر الذي يحترق عند تحليقه على الشرق، تنطبق على نابليون وهتلر، فالاثنين وجدا نهاية المجد الذي حققاه في قلب أوروبا يتلاشى عند خوض المغامرة لإخضاع روسيا، ولكن ما لم يذكره نوسترداموس هو أن الدب الروسي سيتعرض للهزيمة المرة بعد الأخرى في حالة خوضه التحدي في الغرب الأوروبي، فالتوسع في قارة معقدة وصعبة وكثيفة في خطوط التماس مثل أوروبا مسألة مرهقة لأي قوة في العالم، مهما بلغت من شأن ومهما حشدت من قدرات، المغول لم يتمكنوا من ذلك، ومن بعدهم العثمانيون.
الحروب ستعود مرة أخرى إلى الأراضي البعيدة، إلى الساحات التي يمكن أن تمارس فيها ألعاب تكسير العظام دون أن يحدث مساس حقيقي باستقرار القارة الأوروبية، سوريا مثلا، ايران، وأي مكان آخر في افريقيا أو آسيا، هذه شروط اللعبة المسموح بدخولها، ولكن أن تتعرض برلين وفيينا وباريس إلى ضغوط حقيقية فهذه مسألة تنذر تفوق قدرة الروس وغيرهم.
الأزمة الأوكرانية ستعيد جدولة وترسيم خطوط التماس من جديد، وربما تنعكس بشكل أو بآخر على الجبهات المختلفة في سوريا والعراق وليبيا، ولكن أحدا لا يمكنه تحديد الإطار الزمني لذلك لأنها مسألة تعتمد على زخم البدائل المطروحة سواء في روسيا أو أوروبا الغربية ومن ورائها واشنطن.