هل تشكل العقوبات رادعا للجريمة؟

شكلت العقوبات مُنذ بداية المجتمع الإنساني، على مخالفة قوانين المجتمع المكتوبة وغير المكتوبة (الأعراف والمعايير والقيم)، ركناً أساسياً والاستراتيجية الأهم لحمل الناس على الانصياع للجماعة أو المجتمع. وكانت العقوبات في المجتمعات البسيطة والتقليدية قاسية جداً، حتى يتحقق الردع؛ لأن الجماعة كانت أهم من الفرد، لا بل إن الفرد لم يكن له كيان مستقل في تلك المجتمعات، وليس أمامه سوى الانصياع للجماعة أو مواجهة أقسى العقوبات.
إن تطور المجتمع الإنساني لم يلغ الحاجة لعقاب المخالفين للقانون، وإنما أصبحت القوانين والعقوبات أكثر تعقيداً وأكثر تحديداً، بحيث يصبح العقاب مساوياً لمقدار المخالفة. ولم يعد العقاب كلياتياً كما كان في السابق. وجاءت الأديان والشرائع السماوية ورسخت فكرة العقاب والثواب في المجتمع، وبذلك أصبحت مشروعية العقاب عالية جداً، وتم قوننة كل ذلك في القوانين النافذة في البلاد.
ولكن التطور الرئيس في المجتمع المعاصر، والذي لم يكن موجوداً بالسابق، هو الكيان الفردي المستقل. إذ أصبحت أغلب الدول تراعي في تطبيقها للعقوبات حقوق الأفراد المخالفين للقوانين. وحتى في الحروب، فرضت الشرائع الدولية حقوقاً للأسرى من الجيوش المتحاربة، تمثل المحافظة على الحد الأدنى من الإنسانية.
ولا نستطيع أن ننكر، والدليل يدعم ذلك، أن العقاب شكل ويُشكل رادعاً أساسياً للأفراد في المجتمع. وبالتالي، تتم حماية المجتمعات والأفراد من الذين يتعدون على الآخرين، أو على المجتمع والدولة التي يعيشون بها. لكن العقوبات وحدها ليست السبب الوحيد في تراجع الجرائم أو ضبطها، إذ هناك أسباب كثيرة تؤدي بالناس لمخالفة القانون، بعضها أسباب نفسية واجتماعية واقتصادية. لا بل في حالات معينة يكون القانون نفسه هو السبب؛ إذا لم يكن عادلاً، لأن هدف القانون بالاضافة إلى الضبط الاجتماعي، هو تحقيق العدالة بين الناس. وأحياناً يكون السبب هو عدم تطبيق القانون بالتساوي بين الناس.
الدراسات السوسيولوجية والقانونية والجرمية العالمية تؤكد أنه في أغلب دول العالم، يتم تطبيق القانون على الفئات المهمشة والضعيفة والفقيرة أكثر من غيرها، الأمر الذي يعود لطبيعة القوانين التي تجرم مخالفات هذه الفئات أكثر من الفئات الوسطى والعليا في المجتمع، أو لأن الأفراد في هذه الفئات ليس لديهم الوسائل والإمكانات المالية أو الاجتماعية التي لا تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء. لذلك، فالحد من الجريمة وتخفيض نسبها، يتطلب من المجتمعات الانتباه لهذه الأسباب، وليس فقط تطبيق القانون وإنزال العقوبات بحق مرتكبي هذه المخالفات.
كل المجتمعات الإنسانية تسعى إلى المحافظة على النظام وتحقيق العدالة بين المواطنين. وقد شكلت العقوبات بحق المخالفين للقانون إحدى وسائل الردع المهمة لتحقيق هذه الغاية. لكن التجربة الإنسانية تفيد بأن المجتمعات التي استطاعت أن تخفض أعداد الجرائم للحد الأدنى، لم تعتمد على العقوبات فقط، بل ركزت على مجموعة من العوامل المهمة؛ منها عدالة القانون، وعدالة التطبيق، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع. بينما المجتمعات التي تعتمد بشكل أساس على العقوبات، فشلت في تحقيق ذلك.
إضافة لذلك، فإن التقدم الانساني أدى بالعديد من الدول إلى المحافظة على الحقوق الإنسانية لمخالفي القانون، وبعضها ألغى العقوبات القاسية، كالإعدام، من نظام العقوبات لديها.