الحكومات ووثائقها السرية
تفرج بعض الدول الديمقراطية بموجب قوانين خاصة عما يسمى الملفات الحكومية السرية بعد أن يكون قد مضى عليها حقبة زمنية يختلف طولها من دولة لأخرى، فتتلقفها وسائل الاعلام بالنشر والتعليق اذا كان فيها ما يثير فضول الناس لكن كثيراً منها قد يُهمل إذا لم تستقطب اهتمام الباحثين والمؤرخين، وقد ترسخت هذه الممارسة في الدول الديمقراطية بفضل تداول السلطة والتعددية وحق المواطنين في الحصول على المعلومات خصوصا حين تتعلق بما يصنع تاريخهم..
من المعروف ان تلك الملفات السرية حين تفتح لاطلاع الجمهور لا تستثنى سوى بعض معلومات ما زالت سريتها ضرورية لأمن الدولة او مصالحها العليا وذلك مبدأ مقيد بضوابط لا تستطيع الحكومات المتعاقبة ان تتلاعب بها حسب أهوائها وميولها السياسية أو مجاملةً لاشخاص ذوي نفوذ سياسي أو مالي ! ومن المعروف ايضاً أن بعض القيمين على تلك الملفات أو المسؤولين عن المحافظة على وثائقها يمكن ان يتمردوا على قواعد السرية في وظائفهم فيقوموا بافشاء ما فيها رغم علمهم بتبعات ذلك من عقوبات قد تكون شديدة لكنهم يبررون مواقفهم بدوافع مختلفة اهمها في رأيهم إخلاصهم للوطن بتجنيبه الوقوع في خطأ يرونه ماثلاً ويقولون إن إطلاع شعوبهم على ما تتستر حكوماتهم عليه سوف يحبط ضلوعها في مؤامرات تضر بالمصالح الوطنية.. ولعل اكبر عملية (فضح) للاسرار جرت في العصر الحديث هي تلك التي قام بها الاسترالي جوليان أسانج في نشره لمئات الآلاف من الوثائق على موقع (الويكيليكس ) وهز بها مصداقية كثير من الحكومات وأكسبته شعبية تجاوزت كل الحدود، لكن قائمة الصحفيين الاستقصائيين قبله وبعده طويلة طويلة وهم الذين لا يكتفون بالتفتيش والتنقيب في مخازن تلك الوثائق المفرج عنها بل يذهبون وراء مصادر أخرى صعبة المنال، وآخر اطلاعاتي في هذا الصدد ما قاله على موقع Democracy Now في 31 تشرين الأول 2014 الباحث الصحفي إيريك ليختبلاو عن كتابه الجديد (النازيون بين ظهرانينا: كيف اصبحت اميركا الملاذ الآمن لرجال هتلر) الذي أماط فيه اللثام عن الخطة السرية التي جندت بها وكالة الاستخبارات المركزية آلافاً من مجرمي الحرب النازيين وأتت بهم الى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وكانت الـ(سي آي أيه) يومها برئاسة ألآن دالاس (شقيق جون فوستر دالاس) وقد تعاون معه ج. إدجار هوفر J. Edgar Hoover مدير الـ مكتب التحقيقات الفيدرالية وذلك من اجل استخدامهم كجواسيس في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي أو الاستفادة من خبراتهم العلمية والعملية فقد كان بينهم نحو 1600 من المهندسين الذين شاركوا في صنع الصواريخ والاطباء الذين قاموا بالفظائع التي يندى لها جبين الانسانية في معسكرات الاعتقال حيث عذب وقتل مئات الألوف ليس من اليهود فحسب بل أيضاً من الشيوعيين والمثليين والغجر وسواهم.. وقد بنى المؤلف معلوماته على ما جاء في الوثائق الاميركية التي أفرج عنها عام 2010 وجاء فيها مثلا كيف اجتمع ألآن دالاس نفسه في زوريخ بسويسرا مع الجنرال النازي كارل وولف احد اركان قيادة هملر والمسؤول عن شبكات القطارات الخاصة التي حملت ملايين من المعتقلين الى حتفهم وبعد انتهاء الحرب وعلى مدى عامين حمى ألآن دالاس هذا الجنرال من تهم جرائم الحرب فبعد ان كان أحد المتهمين الرئيسيين في محاكمة نورمبرغ تحوّل الى شاهد دفاع ولم يسجن يوماً واحداً !
وبعد.. صحيح أن التاريخ مازال مليئا بالاسرار التي لم تكشف بعد لكن عصر الانترنت غيّر المعادلة في باقي الدول دونما حاجة لقوانين خاصة !