ثورة الصحافة
لو خيّرت بين وطن فيه صحافة حرة وليست فيه حكومة ، وبين وطن فيه حكومة وليست فيه صحافة حرة ، لاخترت الوطن الذي فيه صحافة حرة".
(روزفلت)
أقف احتراما للصحفيين الشبان الذين يخوضون معركة الصحافة الأردنية نيابة عن كل الصحفيين والعاملين في المؤسسات الإعلامية ، هذه المعركة التي كان من المفروض أن يخوضها لسنوات طويلة من أطلقوا على أنفسهم رجال الإعلام ، ولكنهم اشتغلوا بالمحافظة على وظائفهم ومكتسباتهم ، ورضا المسؤولين عنهم ، ومن ثم رضا المساهمين الكبار في المؤسسات الإعلامية الذين اختصروا الصحافة في رقم واحد ، إما الربح أو الخسارة - وقد أكون أحدهم - أما هؤلاء الأبطال فما زال لديهم حب المغامرة الصحفية والمانشيت البراق ، وكشف الحقيقة فهم يؤمنون بأنهم يساهمون في بناء غدْ مشرق.
من ضمن ما طالب به "البوعزيزيّين" هو استقلال المؤسسات الصحفية ، الذي يقتضي انسحاب صناديق الحكومة من ملكية الصحف ، وفض هذه الشراكة القسرية التي ساهمت في تراجع الرسالة وطمس الحرية ، حين أصبح رجال الصحافة دمى متحركة يتحكم بخيوطها من أصحاب الدولة إلى أصحاب السعادة ومن الباشا إلى الأفندي.
هذه المؤسسات تقول: "نحن لا نتدخل في تحرير الصحف ولكننا شركاء في المال فقط". ثم تكتشف أن قرارات تعيين الإدارة والتحرير ما هي إلا "فرمان" مشروط صدر من وراء الكواليس.
سأحكي لكم قصة عايشتها بتفاصيلها ، في فترة ما قرر رئيس تحرير سابق لـ"الدستور" أن "يشتغل صحافة" كما يقال ، ففتحت "الدستور" عدداً من الملفات الساخنة ، وتألق في فضاء الحرية آنذاك الكاتب المرحوم محمد طمليه بأسلوبه الساخر السلس ، ما أثار حفيظة رئيس الوزراء في ذلك الوقت ، فما كان منه إلا أن أوعز لممثلي الحكومة في مجلس الإدارة بالتدخل لتغيير رئيس التحرير ومنع محمد طمليه من الكتابة، كنت حاضراً أثناء المكالمة التي جرت مع ذلك الرئيس ، إذ تم الوصول إلى تسوية مفادها ألا تنتقد الصحيفة الأداء الحكومي لا من قريب ولا من بعيد ، في مقابل أن يستمر الكاتب ولكن باستخدام اسم مستعار ويتناول فقط المواضيع الاجتماعية ، ويبقى رئيس التحرير في عمله.
هذا وإن سلّمنا أن مصلحة هذه الصناديق تنحصر في المال ، فقد حوّلت المؤسسات الصحفية إلى مؤسسات هدفها الربح فقط بعد أن تخلّت عن دورها الصحفي والوطني ، بدليل سكوت الصحف عن مؤسسات كبرى لأنها تخشى على إعلاناتها ، والحد من التوزيع خارج المملكة لأنه غير مجدْ مالياً ، ومنع الصحفيين من السفر لتغطية أحداث هامة بحجة تخفيض النفقات. ونسي رجال الصحافة أن الصحافة هي أساساً رسالة ومبادىء ندافع عنها.
وهكذا يجد رجال الصحافة أنفسهم بين مطرقة قوى الضغط الحكومية وسندان مدونة السلوك التي تمنع اشتراك المؤسسات الحكومية بالصحف وتمنع الصحفيين من العمل الرسمي وغيرها.
لقد عبّر جلالة الملك عن إرادته السامية لحرية سقفها السماء ، ومؤسسات إعلامية مستقلة ، وعلينا أن نترجم هذه الإرادة بتحرير الصحف من تحكم الصناديق الحكومية وجماعات الضغط المسيّسة كالضمان الاجتماعي والنقابات المهنية والأحزاب ، والسماح للإعلام أن يحمي نفسه بشراء أسهمه ، وحصر ملكية الصحف بالعاملين فيها والأفراد ضمن أسقف محددة.
وأعرف أن هذه الفرصة ذهبية لإعادة هيكلة المؤسسات الصحفية التي تضمن لها الاستقلال ، فالرئيس الحالي محب للصحافة وعلى درجة عالية من الوعي بأهمية ودور الصحافة ، ووزير إعلامه هو الخبير بالصحافة والمعروف بمبادئه ومهنيته ، لذلك آن الأوان لكي تنتقل الحكومة من الشعارات إلى العمل بدءاً بإلغاء مدونة السلوك ، وعرض القوانين التي من شأنها التأسيس لصحافة حرة مستقلة.
وخلاصة الأمر نريد لصحافتنا أن ترقى لوصف تولستوي: "بوق للسلام ، وصوت للأمة ، وسيف الحق القاطع ، وملاذ المظلوم ، ولجام الظالم ، تهز عروش القياصرة ، وتدك معالم المستبدين".