لماذا استفحلت الشكوى؟

د. صبري الربيحات
في كل مكان، وأين ما أدرت وجهك، لا تسمع إلا الشكوى والتذمر. الجميع يهمسون أو يجاهرون بمخاوفهم، ويؤشرون إلى مصادر الخوف والقلق والتوتر. 
ما إن يتلاقى اثنان ويتبادلان التحية، حتى تبدأ الاستفسارات عن الأوضاع العامة، ثم تبادل الآراء ومقارنة الملاحظات والانطباعات. وينطلق مسلسل رواية القصص والمشاهدات التي لا تنتهي. 
غالبية ما يقوله الناس أقرب إلى الشكوى والتذمر من أي شيء آخر. حتى المنتفعون والمنافقون لديهم ما يقولونه عندما يتاح لهم أن يعبروا عما يشغل عقولهم وقلوبهم. يتذمر الناس من الغلاء، ومن أزمات المرور، والجريمة، والفساد وثراء البعض المفاجئ، وعطايا ومنح تلقاها البعض من القادرين على العطاء، كما بشأن الذهب الذي وجد هنا واختفى هناك، والتعيينات التي تتم على أسس غير التي قيل عنها في الإعلام، وأمانة عمان والمياه التي طافت وأغرقت الشوارع، وتقارير تنامي الرشوة، وانتخابات النواب، ودخول "الملكية الأردنية" تحت عباءة استثمارات مؤسسة الضمان الاجتماعي، والمسجد الأقصى بعد أن أغلق لأول مرة في التاريخ... وعشرات الروايات الأخرى.
ما يغلب على الأحاديث التي ينشغل بها الناس، هو الإجماع على الشكوى من كل شيء، وفقدان الثقة بالمسؤول، والخوف من المستقبل، والحنين إلى الماضي.. فلماذا كل هذا؟ 
قبل أيام، قال النائب السابق المخضرم ممدوح العبادي، في محاضرة ارتادها المئات من العاملين في الشأن العام والمهتمين بما يحدث على مسارحه: "إن ما يدور في أذهان الجميع، ويسأله العارفون وغير العارفين، يتلخص في "لوين رايحين؟!"". وربما أن الإجابة عن هذا السؤال كفيلة بتبديد القلق. 
أظن أن الوعي قد زاد، ولم تترك معرفة الناس بدقائق الأمور مجالا للخداع أو المراوغة والتضليل. الناس يتطلعون إلى احترام إرادتهم، وما يحفظ كرامتهم. وهم يتطلعون إلى أن يقوم المكلف بواجبه بصدق ونزاهة، وأن يُنتدب الأكفاء لأداء العمل. ولا يفهم الناس أن يكون للمسؤولين أجندات غير المعلنة.
يعلم الناس أن لهم حقا في الحياة الكريمة، وفي التعليم والصحة والعمل. ويعي الناس جيدا أنهم مصدر السلطات التي لم يعودوا يمتلكونها؛ فقد ناب عنهم من يعملون لصالح الحكومات من دون اعتبارات حقيقية لمصالح المواطنين الذين يسمعون عن صفقات تتم يشارك فيها متخذو القرارات ومعاونوهم.
الاقتصاد عقيم لا يولد فرص عمل، والتنمية شكلية لا تغير في التفكير والمعرفة والسلوك، والقيم المسيطرة تفتقر للنزاهة والعدل، والتباكي على مصالح الناس لا يقابله عمل يشي بصحة هذا التباكي.
في تقرير صدر مؤخرا عن أحد المراكز البحثية في الولايات المتحدة الأميركية، حلّ الأردن في المرتبة الثانية بعد الصين من حيث اعتقاد الناس بأن الرشوة هي أكثر الطرق ملاءمة للحصول على الخدمة أو المنفعة، وذلك من بين 44 دولة شملتها الدراسة. فالفساد تلمسه الغالبية في نشاطاتها اليومية، والتواطؤ على قبوله والتغاضي عنه ملمح لا يمكن لبصير أن لا يراه. والاتصال بين صناع القرار والناس في درجاته الدنيا. والكثير من الناس لا يصدقون ما يسمعونه، ولا يثقون بالمسؤولين الذين يديرون شؤونهم.
الوعود التي سمعوها لسنوات حول الحياة الكريمة والتقدم، تبخرت. والمؤسسات التي ورثها المجتمع عن البناة الأوائل، تدهورت خدماتها وسمعتها. والأخلاق التي حافظت على تماسك المجتمع لقرون، انحسرت لحساب النفع والمصلحة، فالآباء والأمهات لا يتوانون عن دعم جهود الغش الجماعي في المدارس.
تحت شعارات التدين والتأصيل، نمت الجماعات التي جعلت من صناعة الموت عنوانا لوجودها، والدمار طقسا يوميا يتجدد مع كل ساعة. صار التدين شبهة توجب الحذر، بعد أن كان مبعث الطمأنينة والأمن؛ ومحاربة الإرهاب تداخلت مع محاربة التدين، وأصبح من الصعب التمييز بينهما.
غياب فرص العمل، وتفريغ التعليم من مضامينه ووظائفه كوسيلة للتقدم والبناء، وشيوع ثقافة المحسوبية والواسطة، والعودة إلى القبلية والجهوية، والتآمر على المال العام تحت عناوين الخصخصة والشراكة وتشجيع الاستثمار، ظواهر أضحت تقلق الجميع. وفي المجتمعات المحلية التي جرى العبث بنسيجها، ظهرت قيادات بديلة للقيادات التقليدية، مؤهلاتها أنها جاهزة للتعاون مع الإدارات المحلية، لكنها عاجزة عن حل المشكلات وإقناع الناس بمصداقيتها.
التنازع العربي ودعم النظم الاستبدادية لحركات التحرر ظاهرة تبعث على التقزز. وفشل المجتمعات التي أطاحت بقادتها في بناء دول ونظم تحقق آمال الشعوب، أزعجت الشعوب الثائرة والمتهيئة للثوران.