أ.د. سليمان الطراونة يكتب : لماذا لم أعد معارضاً للنظام؟

أخبار البلد - 
لطالما عارضت الفساد الحكومي الاردني بكل انواعه وألوانه وأشكاله السياسية والاقتصادية والقانونية والانتخابية والاعلامية وغيرها منذ ما يقارب الثلاثة عقود، ولطالما قاربت او اقتربت من حمى معارضة النظام بشكل موارب او شبه صريح، حتى جاء الربيع العربي فدخلت دون تخطيط مني في معمعات دوامات معارضات حكومات النظام كلها ابتداءً بحكومة الديوان الملكي وحكومة المخابرات العامة الفاعلتين واحياناً حكومة الدوار الرابع التي لا تزيد على ان تكون اداة طيعة للحكومتين السابقتين، ولم اكن وحدي من استمرأ الرتع في هذه المعارضات المحمومة لكنني كنت في كل مرة ازداد دهشة من سلوكات النظام بكل ادواته معنا ومعي شخصيا، فكلما زادت وتيرة انتقاداتنا كلما اتسع صدره اكثر لنا مما دفعني لأن اعترف بيني وبين نفسي ان نظامنا الذي يتحملنا هكذا يستحق احترامنا لانه طيلة السنوات الثلاث العجاف الماضية كان اكبر من ان يؤذيني او يؤذي اياً من نظرائي او من هم اشد معارضة للنظام الاردني مني، ممن انتهجوا استعمال اللغة الجذرية حتى في معارضتهم لرأس النظام نفسه المصون دستورياً من اي تبعة ومسؤولية، لكن دون الانحدار الى بذاءة الالفاظ التي ادت الى اعتقال البعض لفرط الاساءات البذيئة في الاماكن العامة التي تستحق الاعتقالات والمحاكمات في شتى بقاع الدنيا ليس فقط ضمن قانون اطالة اللسان وانما ضمن قانون العقوبات المتعلق بالقدح والذم والتحقير الذي يمنع حصول ذلك مع بواب العمارة فكيف برأس الدولة، ومع ذلك ترفّع نظامنا عن الحكم على اولئك الذين امتهنوا بذاءة الالفاظ والعبارات في كل انواع الكتابات والهتافات والملصقات والحوارات وحتى الخطب النارية والكلمات امام الحشود المصطنعة التي تطرب لهكذا بذاءات ترفضها قيمنا العربية والاسلامية والانسانية وتخالف كل القوانين المرعية.

وفي هذه السياقات ورغم اندفاعي في شتى انواع المعارضات غير البذيئة الا انني بيني وبين نفسي طالما تساءلت عن الاسباب غير السطحية لاعراض شعبنا عن كل اشكال معارضتنا وحراكاتنا، والمقصود هنا شعبنا بكل قطاعاته ومناطقه ومستوياته العمرية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية، فبعضنا كان يصل في شططه لأن يصم شعبنا الصابر المرابط بالجبن او الانتهازية لا سمح الله، اما انا فكنت اظن ان تشعب شعبنا ديمغرافياً واقتصاديا هو السبب الرئيس في تراخيه في التجاوب مع معارضتنا الوطنية وحراكاتنا السياسية والمطلبية.

لكن بعد الدخول في المعمعة الحراكية الى غايتها بكل اندفاع وعدم ترو تبين لدي تدريجياً ان سبب الاسباب كلها ان شعبنا الواعي بفطرته ما عاد يثق بنوايا قيادات معارضتنا شبه الوطنية بكل الوانها المتناقضة لألوان العلم الاردني، وما عاد يعبأ بتصديق منطلقات قيادات حراكاتنا المتنافرة والمتصارعة على اقتسام الكعكة الوهمية، ولطالما ارتكبت جريمة اغلاق عيني عقلي وقلبي عن ان ابصر حقيقة الحقائق المتمثلة في ان شعبنا لا يثق بنا مطلقا معارضة وحراكا ليس لانه مدجّن او جبان كما يدعي بعضنا، وانما لانه اوعى بفطرته في تاريخ الاردن ومستقبله منا وهو لا يثق بنا ويشك في نوايا وطموحات قياداتنا على اعتبار اننا تفاريق من الحالمين منذ سنين.

فلقد اصطنع اغلبنا كل انواع المعارضات ليس من اجل الاردن وانما من اجل اثبات الذات وسماع المدائح ونيل التصفيقات كلما علت منا الصيحات في ايذاء النظام والحكومات.

لكنني امام الله والتاريخ وامامكم اشهد بأن النظام الاردني بكل ادواته القادرة لم يؤذني في هذه السنوات العجاف رغم كل ما قلت وفعلت، ولم يؤذ امثالي ممن اكتفوا بالنقد بكل انواعه حتى الجذري منه دون الانحدار الى التجريح البذيء لكن النقد الجذري كان يعني فيما يعنيه بشكل غير مباشر واحيانا مباشر تقويض اساس هيبة وشرعية النظام، ومع ذلك ترفّع النظام الاردني الهاشمي عن ايذاء اي منا بشكل مباشر رغم قدرته على ذلك ورغم التفاف الشعب من حوله وليس من حولنا، فكان بذلك احكم من حراكاتنا ومعارضاتنا واثبت انه يستحق ولاء شعبنا الذي كفر بخزعبلاتنا وعنترياتنا.

وهذا من حقنا، نعم من حقنا، ومن حق وطننا علينا ان نقارب مرونة واحتضان نظامنا لنا تسامحه مع كل حدة معارضاتنا منذ عقود ان نقارنه مع الفارق بنظم قمعية مثل الانظمة البعثية الدموية في سوريا والعراق التي بلغت دمويتها حد اغراق سوريا والعراق، وكذلك مع أنظمة حولت وما زالت تحول مواطنيها الى خدم او الى رعية من الغنم، لو قارنا ذلك لوجدنا بكل انصاف ان هنالك فرقاً شاسعاً بين نظامنا الاردني الهاشمي الذي لم يعدم قط احداً لاسباب سياسية محضة، وأنظمة قمعية ودموية وفئوية وطائفية، وهذا الفرق البين لا ينكره الا ظالم او مراهق فكرياً وسياسياً او مدعٍ لغير الواقع او متعالم بخفايا الامور، وهو لا يعلم شيئاً مما حوله يدور، فالناس كل الناس يُتخطفون في الارض ومن الارض والى باطن الارض من حولنا ان عارضوا كمعارضتنا ونحن منذ سنين قلنا في نظامنا ما لم يقله مالك في الخمر ولم يؤذنا كما فعلت وتفعل الانظمة القمعية من حولنا.
اعلم علم اليقين ان المعارضين والموالين سيصدمون من هذه التصريحات الصادمة التي كانت تنمو في شعوري ولا شعوري قبل عقلي منذ زمن عندما بدأت في التصريح بمعارضتي لمواقف البعثيين واليساريين الاردنيين المريبة مما يحصل من مجازر مروعة وابادة جماعية في سوريا فكانت ردود فعل اغلبهم التخوين لي بعد النعيق والزعيق وذلك على اعتبار ان بشار الابن واباه من آلهة القومية العربية التي لا يجوز المساس بها حتى لو ابادت الامة كلها، كان ذلك بيناً عند اتباع بعث سوريا من الاردنيين رغم علمهم ان اسيادهم عبيد لايران، وقد ساوقهم على ذلك اغلب اليساريين في الاردن، والمدهش ان بعث الاردن التابع لبعث العراق ساروا في ركابهم وجاملوهم في الاعلام رغم مواقف بشار وابيه المجوسية من العراق..

عندها كان سؤالي لذاتي او تساؤلاتي بيني وبين نفسي: ماذا لو كان هؤلاء هم حكامنا؟ ماذا لو كان مناصرو القتلة حكاما لنا؟ حتما ساكون انا شخصيا مغتالاً نهارا جهارا واما معتقلاً لعقود دون محاكمة كما كان يفعل حافظ الاسد واما محكوماً عليه بالاعدام شنقا او رمياً بالرصاص او مبعداً طوعاً او كرهاً خارج البلاد او خارج الكرة الارضية، وذلك اذا ما مست قدسية آلهتهم بشار الاسد وحافظ الاب والبعث السوري كروح للقدس، كان ذلك بدء احساسي اللاشعوري بأهمية تسامح نظامنا الهاشمي غير الدموي معنا رغم جذرية معارضتنا.

لكن منذ اشهر شعرت بشكل كثيف كيف ان نظامنا الذي ندينه ونشوّه صورته ليلاً نهاراً بكل قوة وذلك لتسامحه مع الفاسدين ولعدم ضربهم بيد من حديد، وهذا النظام نفسه متسامح معنا ايضاً رغم ان بعضنا يحلم بتقويض اركانه من القواعد، عندها تبين لي ولكي ذي عينين ولسان وشفتين ان نظامنا اكبر واحكم واعلم منا واكثر تسامحاً معنا كلنا من تسامحنا مع بعضنا البعض وانه الاقرب الى روح شعبنا ومستقبل وطننا من اقاويلنا الطافية فوق الوقع بلا وقائع!.

وعندما بدأت في انتقاد داعش صنيعة المخابرات العالمية لغايات مرحلية، وانتقاد الداعشيين والمتدعشين في الاردن ابصرت ان الكثير من اشباه الاسلاميين يجاملونها او يسجلون ملاحظاتهم عليها باستحياء كأنها الخلافة على الدنيا والدين اما انصار داعش في الجنوب والكرك والطراونة ممن كانوا يرقصون فرحاً لنقدي الجذري للنظام الاردني فلقد شرعوا في لومي وتقريعي ومن ثم تهديدي شخصيا وتهديد غيري ان لم نقلع عن نقد ربتهم داعش، عندها تكررت تساؤلاتي بيني وبين ذاتي ماذا لو ان هؤلاء الداعشيين والمتدعشين الاردنيين ومن يسيرون في ركبهم ومن يهتفون لهم او يجاملونهم هم حكامنا لا سمح الله لكان الذبح بالسكين على الشريعة الداعشية وليس الاسلامية هو مصيرنا كلنا واولهم انا!.
في هذه اللحظات الفارقة جلست مرارا امام مرآة ذاتي لأجد ان نظامنا المتسامح غير الدموي يستحق انحياز شعبنا له وانه بسلوكه الحضاري اكبر منا ومن كل انواع معارضتنا لأنه كان اسمى من ان يعاقبنا او يؤذينا وهو قادر على ذلك رغم اننا بالغنا في تطاولنا حتى مسسنا رأس النظام نفسه كثيرا وكثيراً جدا ومع ذلك لم يحصل ايما ايذاء شخصي لاي منا حتى الذين انتهجوا اسلوب البذاءة في النقد الصريح والتجريح غير المريح تم اعتقالهم وأُفرج عنهم رغم تكرار اساءتهم غير المقبولة لرموز الوطن.

في هذه الاثناء، التي كانت فيها ذاتي تراجع ذاتي تذكرت كل المرات التي اعتقلت فيها منذ كنت طالبا ومهندسا واستاذا جامعياً كان ضباط المخابرات لا يدعونني اثناء التحقيق معي الا «تفضل سيدي» و»وضح هذه النقطة سيدي» رغم انني قبل الاعتقالات كنت من الهاتفين ضد النظام وليس ضد الحكومات، فأين هي الدولة العربية التي يقول فيها المحقق في الشؤون السياسية لمن يحقق معه يا «سيدي» لكن اساس هذا المنهج المحترم ان هذه اللفظة المشعة كانت دارجة على لسان الملك الباني الاب الحسين بن طلال مع الجميع من رئيس الوزراء الى الخدم في الديوان، وهي تعبّر بعمق عن دماثة خلق وسعة صدر هذا النظام الهاشمي غير الدموي..
فاعتماداً على ما سلف، فان نظامنا اكبر من معارضتنا وحراكاتنا واكبر منا ومن معارضتنا ومن احزابنا ومن حراكاتنا ومن تجمعاتنا، وهذا غيض من فيض في التدليل الاولي «لماذا لم اعد معارضاً للنظام» الذي اثبت انه الافضل والادمث والاكبر منا لانه لا يؤذينا كما نؤذي بعضنا، فهو بذلك يستحق بجدارة ان يكون صمام امان وطننا وامننا، ولذلك لم اعد معارضاً له مطلقاً رغم معارضتي للفساد في حكوماتنا والله من وراء القصد لمن كان سبقاً في معارضته الجذرية غير مقتصد، وعندما حكّم العقل غير المعتقل رأي ما لم يكن من قبل قد رأى والحمد لله الذي جعلني ابصر المعارضة الاستعراضية على حقيقتها من داخلي وألهمني الجرأة في قول لا لها رغم علمي الاكيد بأن عبدة اصنامها سيسلقونني بألسنة حداد ولن يضيرني ذلك ابداً، فالغد غير المرتد الولاء له اولى من السعي لانهيار السد.
والله من وراء القصد