دلالات الانتخابات التونسية

جاءت الانتخابات التشريعية التونسية، قبل أيام، تتويجاً لمرحلة انتقالية بعد الثورة هناك، دامت أربع سنوات تقريبا. وقد أظهرت نتائج هذه الانتخابات تغييرا في موازين القوى، تبدّى بتراجع حزب النهضة الإخواني وحزب الرئيس منصف المرزوفي اللذين قادا تونس في المرحلة الانتقالية، وبصعود تحالف نداء تونس العلماني باعتباره الطرف الأقوى.
وتنطوي نتائج هذه الانتخابات على العديد من الدروس والعبر، في محاولة فهم التحولات السياسية الكبرى التي تعصف بالمنطقة:
أولاً: أن القوى السياسية التونسية المتنافسة استثمرت المرحلة الانتقالية في تحديد قواعد اللعبة السياسية، من خلال دستور توافقي شارك في صياغته الجميع. وإن لم يستطع كل طرف تحقيق مبتغاه، إلا أن الجميع توافقوا على مساحات مشتركة أجبرتهم على الانصياع لقواعد اللعبة تلك.
ثانياً: جاءت هذه الانتخابات التي جرت في ظل أجواء خالية من العنف تقريبا، لتوقف مد المشروع الإخواني في تونس، ولكن من خلال صناديق الاقتراع هذه المرة. وعدم طعن حزب النهضة بنتائج الانتخابات (التي كان جزءاً من إدارتها) والاعتراف بالهزيمة في الانتخابات وتهنئة الحزب المنافس الذي فاز، تؤسس لثقافة سياسية، وأعراف جديدة في الديمقراطيات العربية الصاعدة.
ثالثاً: أن الانتصار الذي أحرزه حزب النهضة، وأغلب الحركات الإخوانية، وبخاصة في مصر، ليس انتصاراً ربانياً ولا انتصاراً دائماً. وعلى الأرجح أنه كان أقرب الى ما نسميه "الصوت الاعتراضي" على النظام السابق وسياساته ورموزه، أكثر من كونه إيماناً بأيديولوجية وسياسة هذه الحركات.
رابعاً: أن موقف الناخبين من حزب النهضة وحركات الإخوان التي تسلمت السلطة بعد الثورات، كان نتيجة مباشرة لتجربة هذه الحركات في الحكم. وهذا يعني أنها وعدت الناخبين بما لا تستطيع تلبيته، وأن الناس حكموا عليها من خلال أدائها وليس من خلال أي شيء آخر. وهذه هي حالة الديمقراطيات، وهذا هو المعنى الفعلي لتداول السلطة.
خامساً: تأتي التجربة التونسية لتضع حداً للحركات العابرة للحدود التي لها امتدادات خارجية، ولتكون درساً لهذه الحركات بأن مسألة التحول الديمقراطي هي مسألة وطنية وليست عبر قطرية؛ وأن لكل مجتمع خصوصيته، وظروفه، وتجربته التي تملي عملية التحول؛ وأنه لا يمكن القفزعن الواقع، واستيراد نماذج من هنا أو هناك؛ وأن على كل مجتمع ودولة أن يخرجا نموذجهما الخاص بهما ضمن الإطار العام لمبادئ الديمقراطية، والتعددية السياسية. وهذه كانت حال عملية التحول في كل دول العالم، وأن لا جدوى من البحث عن نماذج خارج حدود الدولة.
سادساً: أن حزب النهضة في تونس لم يستطع أن يختطف الثورة بعد فوزه بالانتخابات التأسيسية، وأن يقصي القوى والأحزاب السياسية. وهذا يعود جزئيا لتجربة حزب النهضة المختلفة، ولكنه يعود أيضاً، وبشكل أساس، لوجود مجتمع مدني قوي استطاع أن يحافظ على مكتسبات تونس التاريخية والدولة المدنية، ضمن إطار تشارك فيه جميع القوى السياسية.
إن التحول للديمقراطية عملية طويلة وعسيرة، ومحفوفة بالمخاطر أحياناً، لأن البعض سوف يقاومها. ولكنها عملية ضرورية لتمكين المجتمعات العربية من دخول نادي الديمقراطية، ووضع الدول العربية على مسار التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهي (العملية) لا بد أن تكون نابعة من ديناميكية وطنية تتشارك بصوغها الأطراف الفاعلة كافة، بعقلانية وواقعية سياسية، ومن دون إقصاء لطرف.
والتجربة أيضا تقول إن عصر الأحزاب الأيديولوجية الشاملة قد انتهى، وإنه لا بد من أن تحدث مراجعات من قبل كل هذه القوى تقتضي الالتزام والتمسك ببرنامج وطني يكون جلّ همه رفعة الوطن والمواطن.