ضوء من الأندلس
تنطوي التجربة الحضارية التي عاشها العرب والمسلمون في الأندلس على الكثير من الدروس المهمّة، فقد نشأت هذه الحضارة بفعل عوامل كثيرة، كانت وما زالت تقف وراء نهضة أمم كثيرة.
ففي عصر الخلافة الأموية في الأندلس في القرن الرابع الهجري شهدت الحضارة الأندلسية تألّقاً عظيماً جعل من قرطبة عاصمة دولة الخلافة مدينة عالميّة يرتحل إليها العلماء والتجار والسفراء من أنحاء الشرق والغرب.
وأجمعت المصادر التاريخيّة أنّ خلفاء بني أميّة كانوا يولون أهميّة بالغةً للعلم والقضاء، وأنّهم، كانوا يتواضعون للعلماء ويرفعون أقدارهم ويصدرون عن آرائهم وأنّهم كانوا لا يختارون وزيراً ولا مستشاراً ما لم يكن عالماً.
أمّا القضاة فلم يكونوا يعينون أحداً في القضاء أو الإفتاء حتّى تعقد له مجالس المذاكرة ويخضع لامتحانات كثيرة، وحتّى يثبت لهم أنّه صاحبُ علمٍ وصاحبُ دين وصاحب أمانة وأنّه في غنىً عن مدّ يده إلى أموال الناس.
وكان أمراء بني أميّة لا يترددون في المثول بين يدي القضاة متى ما جرى استدعاؤهم. وقد أوردت الكتب التاريخيّة وكتب الفقه والقضاء الأندلسيّة الكثير من الحكايات التي تثبت احترام خلفاء بني أميّة وأمرائهم للأحكام التي كان يصدرها القضاة حتى وإن كانت مخالفة لرغباتهم.
لقد أدرك خلفاء بني أميّة في الأندلس أنّ العلم يرفع من قدر الأمم ويضمن تقدمّها وتطوّرها ويحصنّها ضدّ التحدّيات التي تواجهها فأقبلوا عليه إقبالاً لا نظير له حتى بلغ عدد المجلدات في مكتبة الخليفة الحكم المستنصر أربعمائة ألف مجلّد، وحظي العلماء بمكانة وتقدير عظيمين.
كما أدركوا أنّ العناية بالقضاء يضمن العدل بين الناس، وأن العدل والمساواة يعزّزان الانتماء للأمّة والوطن ويؤديّان إلى الاستقرار والطمأنينة والولاء للحكم.
إنّ نجاح الدول وتقدّمها وتغلّبها على أزماتها وعلى التحديات التي تواجهها مرهون قبل كل شيء بانتشار العلم وإقامة العدل، فهما مصدر قوّة الأمّة واستقرارها. ولم تفقد أيّ أمّة أمنها واستقرارها ولم تخسر هيبتها ومكانتها إلاّ بعد تفريطها بالعلم وتقصيرها في رعايته، وبعد إخلالها بأصول العدالة والمساواة بين الرعيّة.