دمقرطة المجتمع العربي وحقوق الانسان

                         

                                             

                                               

دمقرطة المجتمع العربي وحقوق الإنسان

بقلم:الأستاذ الدكتور مخلد الفاعوري*

إن الهاجس الأساسي والجوهري الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال، في العلاقة بين الثقافة من جهة وحقوق الإنسان في مجتمعاتنا من جهة ثانية هو سؤال طرحته على نفسي في بدايات اندلاع الثورة الشعبية في تونس الخضراء، لماذا تقبلت مجتمعات عربية عديدة منذ نهاية القرن التاسع عشر قيم حقوق الإنسان والديمقراطية دون أن تنقطع عن فهم الثقافة والتراث الإسلاميين بل قاربت الثقافة العربية الإسلامية من منطق الاستشراف الحداثي حتى فيما يخص الأحوال الشخصية وأعمال التقنيات النابليونية دون مقاومة كبيرة حينذاك؟ ولماذا نشهد في زماننا الأصولية (سلفية، ليبرالية، ماركسية) وقوى الشد العكسي تلعب دور رد فعل نكوصي معاد للتحديث والتطوير والإصلاح؟.

فكل النهضات والحضارات التي سادة في الماضي قامت على أساس الانتصار الاستراتيجي على الآخر والاستبداد التوتاليتاري والهوس القومي .. انتصار دفع الآخر بعيدا. لذلك لم يقدم التراث كبنية حضارية تتقدم وتنموا فنجد جهلا بتاريخ الثقافات الأخرى وجهلا بحركة المعرفة البشرية بل نظرة ستاتيكية سكونية إلى المعرفة البشرية وفي النتيجة رفض للآخر حتى أصبح الحاضر مشغول بالماضي أما المستقبل فأسير لحاضر مفوت حتى افرز صراعا بين المؤسسة العلمية والثقافة حيث سميت بتجربة محمد علي عندما فصل الأزهر عن المدرسة فنتج موقف فصامي من واقع مزدوج وهو الأساس في ثقافة العنف.

فمنذ تجربة محمد علي إلى التجربة الناصرية إلى التجربة الشيوعية المحلية ساد المنطق النهضوي الفصامي من واقع مزدوج تلفيق وتوفيق فأصبح الماضي حاضرا فينا لا كتاريخ نبني عليه بل كمنظومة فكرية نعجز أن نتجاوزها حتى شكلت غلافا عقائديا لصراعاتنا وجاهلياتنا الراهنة. بذلك قبلت التيارات العلمانية بالمساواة بين الرجل والمرأة في السياسة لكنها لم تقبل بها في القوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية. مثالنا على ذلك ما ورد في الميثاق الوطني الجزائري للعام 1976. لذلك أصبحنا حداثيين في الحياة والاستهلاك أصوليين في الثقافة وتعمق التباس العلاقة بين الماضي والمستقبل صار تاريخنا الحديث صراعا ضد الغرب ولأجله صار بعضنا مع الغرب أيديولوجينا وضده إنسانيا وبعضنا الآخر مع الغرب سياسيا وضده أيديولوجينا وصار تاريخنا صراعا ضد الماضي ولأجله. بعضنا سلفي سياسيا وحداثي أيديولوجيا وبعضنا الآخر سلفي أيديولوجيا وحداثي سياسيا. وأمسى الإنسان وحقوقه الهاجس الأخير عند كل من ادعى التنوير فينا وما الذي نتج عن ذلك؟ نتج شرخ اجتماعي ثقافي شامل وازدواجية متكاملة تخلق مناخا صراعيا في جوانب الحياة كلها من السياسة إلى الاقتصاد إلى الثقافة ونشا شرخ بين قطاعين الأول عصري مستنسخ والثاني تقليدي ماضوي.

ونستطيع أن نقول أن القيمة العميقة لأية حضارة تكمن في المكانة التي تعطيها لكرامة الإنسان على أسس العدالة وفي المقابل فان حرية  الوطن ليست شرطا مسبقا لحرية الإنسان بل إن حرية الإنسان وحقوقه ومكانته كمواطن هي التي تؤسس للتنمية الحقيقية. لكن ما حصل انه أبان فترة الحرب الباردة تم توظيف حقوق الإنسان السياسية من جهة وحقوق الإنسان الاجتماعية من جهة أخرى سلاحا في الدعاية والتضليل السياسيين للمصالح الجيوبوليتيكية لهذه الدول العظمى أو تلك. إذ لم تعد التدابير والأنظمة والقوانين وحدها كافية لحل المشاكل المتفاقمة والملحة في مجتمعاتنا بل الأمر بات يتطلب إعادة النظر جذريا في البنية الإدارية والمؤسساتية بسبب ظواهر الفساد وغياب العدالة. فإذا كانت العدالة هي الشرط الأساسي لتنمية حقوق الإنسان فان الشفافية هي العمود المحوري الذي ينبغي أن تدور حوله المؤسسات جميعها للحيلولة دون تسلط منطق مراكز القوى وجبروتها. وحدها ديمقراطية التطور السياسي وبنمو طبيعي التي تسعى إليها الشعوب من خلال ثوراتها تستطيع أن توفق بين جميع الأشكال الحقوقية، الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والمدنية، والثقافية. في حين أن بعض الديمقراطيان تفشل في تجذير حقوق الإنسان فهي لا تلبث أن ترتد قمعا لهذه الأقلية أو تلك لهذه الثقافة أو تلك أو لهذا الفكر أو ذاك. فهذه المدارس التي حكمت والتي كانت محكومة بمعادلات إقليمية ودولية وداخلية، ولكونها سلطة سرحت ومرحت بالعباد، تقمع هنا وتساوم هناك، تتفنن في اختراع آليات ديمومتها بغض النظر عن أي اعتبار آخر، وضعها في هذا الازدحام وللحفاظ على نفس القائد الرمز، تحول إلى بديل عن كل شيء، ايديولوجيات وأحزاب وسياسة. والاستبدالية معروفة، الحزب استبدل مصالح المجتمع بمصالحه كحزب قائد، والقائد استبدل مصالح الحزب والمجتمع معا، ودخلنا زمنا تكراريا بالمعنى النسبي للعبارة فالزلزال السياسي الذي يضرب منطقة الشرق الأوسط من محيطها إلى خليجها يعتبر اخطر واحدث طريقة لاستبدال التباين والفجوة التي تشكلت بين الحكام والشعوب أبان الحقبة التي سبقت ثورة تونس والتي أشعلت الشرارة الأولى لكل ما يجري من تغير وإصلاحات سريعة. فالآن يتصدر الخطاب الديمقراطي عناوين أدبيات المعارضة الشعبية الشبابية الحالية، وتقريبا نفس الشعارات، نحو تغيير سلمي آمن وتدريجي نحو الديمقراطية المنشودة من الشعوب.

 

أستاذ جامعي | جامعة فيلادلفيا * malfaouri@hotmail.com