من قتل الأطفال؟

أن‭ ‬تقوم‭ ‬أم‭ ‬بوضع‭ ‬كفيها‭ ‬على‭ ‬رقبة‭ ‬صغيرها‭ ‬النائم‭ ‬باطمئنان‭ ‬على‭ ‬فرشته،‭ ‬وتطبق‭ ‬بيديها‭ ‬على‭ ‬أنفاسه‭ ‬الوديعة‭ ‬البريئة‭ ‬حتى‭ ‬تتوقف‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬الحياة،‭ ‬ثم‭ ‬تقوم‭ ‬من‭ ‬فوقه‭ ‬لتكرر‭ ‬فعلتها‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬على‭ ‬عنق‭ ‬شقيقته،‭ ‬وبعدها‭ ‬حين‭ ‬خذلتها‭ ‬يداها‭ ‬تسحب‭ ‬المنديل‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬رأسها‭ ‬لتعيد‭ ‬الكرة‭ ‬مع‭ ‬الشقيقة‭ ‬الثالثة‭ ‬وتقوم‭ ‬لتكمل‭ ‬مشوار‭ ‬الموت‭ ‬الجماعي‭ ‬في‭ ‬الناحية‭ ‬التي‭ ‬ترقد‭ ‬فيها‭ ‬الابنة‭ ‬الرابعة،‭ ‬قطعا‭ ‬تتجلى‭ ‬الحلقة‭ ‬المفقودة‭ ‬التي‭ ‬تحل‭ ‬لغز‭ ‬توقف‭ ‬العقل‭ ‬والقلب‭ ‬معا،‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬موت‭ ‬الأم‭ ‬داخل‭ ‬الأم‭.‬

ما‭ ‬هي‭ ‬الحلقة‭ ‬المفقودة؟‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬الأربعينات‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬لديها‭ ‬أربع‭ ‬بنات‭ ‬وولد،‭ ‬زوجها‭ ‬متهم‭ ‬بقضية‭ ‬تحرش‭ ‬جنسي‭ "‬حسب‭ ‬رواية‭ ‬البنت‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الزميل‭ ‬موفق‭ ‬كمال‭"‬،‭ ‬ويقضي‭ ‬فترة‭ ‬حبس‭ ‬إداري‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬أيلول‭ (‬سبتمبر‭) ‬الماضي،‭ ‬تقيم‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬جديدة‭ ‬قام‭ ‬شقيقها‭ ‬بترحيلها‭ ‬إليها‭ ‬قبل‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الجريمة،‭ ‬تعاني‭ ‬مشاكل‭ ‬مركبة‭ ‬نفسيا‭ ‬واجتماعيا‭ ‬واقتصاديا‭ ‬كما‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬التقرير‭. ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬المكونات‭ ‬كافية‭ ‬لاستدراك‭ ‬شخص‭ ‬بالغ‭ ‬عاقل‭ ‬إلى‭ ‬جريمة‭ ‬مماثلة،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬وصف‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬يفيها‭ ‬حقها‭ ‬في‭ ‬الدلالة؟

أعرف‭ ‬أن‭ ‬القضية‭ ‬الكارثة‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬قيد‭ ‬التحقيق،‭ ‬وأن‭ ‬المعلومات‭ ‬الأولية‭ ‬ليست‭ ‬بالضرورة‭ ‬ترشح‭ ‬عنها‭ ‬استنتاجات‭ ‬فاصلة،‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬الحماية‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬إدارة‭ ‬حماية‭ ‬الأسرة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬التحفظ‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬المعتدى‭ ‬عليها‭ ‬ووالدتها‭ ‬المشتكية‭ "‬حسب‭ ‬رواية‭ ‬الابنة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬التحقيق‭"‬،‭ ‬لحين‭ ‬عرضهما‭ ‬على‭ ‬أخصائيين‭ ‬نفسيين‭ ‬ومرشدين‭ ‬اجتماعيين،‭ ‬يقومون‭ ‬بواجبهم‭ ‬العادي‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬نفسية‭ ‬وسلوك‭ ‬الأم‭ ‬وابنتها‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كذبتا‭ ‬بشأن‭ ‬حادثة‭ ‬التحرش،‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬إحداهما‭ ‬بفعل‭ ‬يندم‭ ‬عليه‭ ‬الجميع‭ ‬لاحقا‭. ‬فأي‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬عنيف‭ ‬بعد‭ ‬حادثة‭ ‬تحرش‭ ‬هو‭ ‬صدى‭ ‬طبيعي‭ ‬وارتداد‭ ‬منتظر‭ ‬للزلال‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬المعتدى‭ ‬عليها‭. ‬لكن‭ ‬أن‭ ‬تكتفي‭ ‬المؤسسات‭ ‬المعنية‭ ‬باستقبال‭ ‬الشكوى‭ ‬والتعاطي‭ ‬معها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنها‭ ‬قضية‭ ‬سرقة‭ ‬حقيبة‭ ‬نسائية‭ ‬من‭ ‬السوق‭ ‬فهذا‭ ‬الأمر‭ ‬غير‭ ‬مفهوم‭ ‬إطلاقا‭!‬

لا‭ ‬عقل‭ ‬ولا‭ ‬دين‭ ‬ولا‭ ‬وجدان‭ ‬يبرر‭ ‬للقاتلة‭ ‬فعلتها‭ ‬الدموية‭ ‬بحق‭ ‬أطفال‭ ‬أبرياء‭ ‬لا‭ ‬ذنب‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬أنهم‭ ‬ولدوا‭ ‬لأب‭ ‬وأم‭ ‬مختلين‭ ‬نفسيا‭ ‬وعصبيا،‭ ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ‬لو‭ ‬تفتح‭ ‬باب‭ ‬الشيطان،‭ ‬لكن‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأم‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬أخرى‭ ‬تحترم‭ ‬الإنسان‭ ‬بحق،‭ ‬لوضعت‭ ‬مع‭ ‬ابنتها‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬الحماية،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬خوفا‭ ‬على‭ ‬حياتيهما‭ ‬بعد‭ ‬حادثة‭ ‬التبليغ،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الدور‭ ‬التابعة‭ ‬للتنمية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬تتلقيان‭ ‬إعادة‭ ‬تأهيل‭ ‬جسدية‭ ‬ونفسية‭ ‬بعد‭ ‬حالة‭ ‬الاعتلال‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬أصابتهما‭ ‬في‭ ‬مقتل‭. ‬وبالمناسبة‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الإجراء‭ ‬قسريا‭ ‬وليس‭ ‬اختياريا‭ ‬مع‭ ‬المتضرر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحالة،‭ ‬لأنه‭ ‬لو‭ ‬ترك‭ ‬على‭ ‬عواهنه‭ ‬فمن‭ ‬المحتمل‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بارتكاب‭ ‬جرم‭ ‬آخر،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬مع‭ ‬الأم‭ ‬القاتلة‭ ‬في‭ ‬القضية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تهز‭ ‬وجدان‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬الأردني‭.‬

لو‭ ‬استبعدنا‭ ‬مبرر‭ ‬الفقر‭ ‬والمشاكل‭ ‬الأسرية‭ ‬والحرمان‭ ‬العاطفي‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬الحلقة‭ ‬المفقودة،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬المواصفات‭ ‬السابقة‭ ‬تنطبق‭ ‬على‭ ‬آلاف‭ ‬الحالات‭ ‬الانسانية‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬لوجدنا‭ ‬الكثيرين‭ ‬منا‭ ‬تلقائيا‭ ‬وبسبب‭ ‬تركيبة‭ ‬عقلياتنا‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬استهلال‭ ‬فتح‭ ‬أي‭ ‬جريمة،‭ ‬ولتركوا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وتمسكوا‭ ‬بتلابيب‭ ‬رواية‭ ‬الابنة‭ ‬الكبرى‭.‬

الغريب‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬البلاغات‭ "‬التحرش‭ ‬الجنسي‭" ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المحارم،‭ ‬ليست‭ ‬واسعة‭ ‬الانتشار‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭ ‬غير‭ ‬الملم‭ ‬تماما‭ ‬بحقوقه‭ ‬المدنية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬وإن‭ ‬حصلت‭ ‬فإن‭ ‬وقع‭ ‬الصدى‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والأمني‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هينا‭. ‬يمكنني‭ ‬طبعا‭ ‬أن‭ ‬أقدر‭ ‬الفرضيات‭ ‬النمطية‭ ‬لطرق‭ ‬تفكيرنا‭ ‬الممنهجة‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الرسمي‭ ‬أو‭ ‬الأسري‭ ‬الذي‭ ‬يستحيل‭ ‬أن‭ ‬يتخيل‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬عميقا‭ ‬لأم‭ ‬مرتبكة‭ ‬بسبب‭ ‬حادثة‭ ‬اتهام‭ ‬الأب،‭ ‬ويعززها‭ ‬حالة‭ ‬الفقر‭ ‬والتهجير‭ ‬من‭ ‬منزلها‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬وافتقادها‭ ‬لأدنى‭ ‬مقومات‭ ‬الأمان‭.‬

 

أعلم‭ ‬أن‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬بأي‭ ‬طريقة‭ ‬لن‭ ‬يعيد‭ ‬الأطفال‭ ‬الثلاثة‭ ‬إلى‭ ‬غرفتهم‭ ‬الصغيرة،‭ ‬لكنني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أحمل‭ ‬الذنب‭ ‬للفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والخوف،‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬يقتسمه‭ ‬معهم‭ ‬ضمير‭ ‬ما‭!‬