تشويش واضح

التلفزيون وسيلة تقريب الواقع بخفة وجمال وجاذبية. وفي "الفضاء العالمي"، مئات البرامج التي تستخدم المواهب والتقنيات، وكل المؤثرات، لتحقيق الغاية التي وجد من أجلها التلفزيون.
في السياسة التي تجتذب الشعوب العربية المقهورة، لا نجد أمامنا في الإعلام إلا الأخبار والبرامج الحوارية التي لا نقوى على متابعتها من شدة الملل؛ فهي تشبه البازيلا من حيث أنها متشابهة في اللون والحجم والمذاق.
الحوار درس، والرأي الثالث هو واحد مقسوم على ثلاثة، وجميعها تعيد نفس الكلام؛ بالمقدمات والحجج والنتائج، لدرجة أنك أصبحت تملك القدرة على التنبؤ بالضيوف والأسئلة، وكل ما سيقال، قبل أن تبدأ إشارة البرنامج.
النقد لا مكان له في الفضاء العربي، لأننا نعيش في بيئة تسودها المجاملة؛ إذ يختبئ الجميع خلف النص، أو يستدعون آيات وأحاديث لإضفاء قدسية على الضعف الواضح في القراءة والتحليل للأحداث.
في الولايات المتحدة، وعلى المحطات الأكثر شهرة، ظهر العديد من البرامج الساخرة التي حاولت تناول القضايا السياسية وغير السياسية بأسلوب يخرجها من الجدية والقدسية البروتوكولية التي تضفى عليها، ليتقبلها المشاهد بابتسامة تخترق طقوس الجلال والجدية؛ فكان جون كارسون وديفيد لاذرمان اللذان أدخلا البسمة والمرح لاغتيال الجدية التي أرهقت أعصاب المتتبعين لمكر وألاعيب الساسة وتقلبات الاقتصاد والسباق غير المسلح للفنانين نحو النجومية، كما لنقل هفوات الذين يتخذون القرارات الكبرى التي تشكل حياة المواطنين/ المشاهدين وترسم مستقبلهم.
وفي لبنان، احتضنت قناة "LBC" شربل خليل ليقدم الساسة اللبنانيين في قوالب جديدة، أظهرت الجوانب الإنسانية في شخصياتهم، من خلال حوار الدمى الذي أدخل المشاهد إلى المسارح الخلفية والأجندات التي توجه سلوك ومواقف اللاعبين الرئيسيين على المسرح السياسي اللبناني. لقد نجح شربل خليل في تقديم الحدث السياسي اللبناني وشخوصه ودينامياته من خلال "الدمى قراطية" التي ابتدعها، وليحول الامتعاض والقلق إلى بسمة. وقد جلب له هذا العمل الخلاق الكثير من المتاعب، ليس أقلها مطاردته وتهديده لتناول بعض الرموز السياسية والدينية.
وفي مصر، ظهر باسم يوسف ليكسر القوالب الجدية للحوار، ويقدم بشيء من السخرية الأحداث والمواقف التي جذبت المشاهدين لظاهرة جديدة اجتاحت الأثير العربي، وأقلقت الكثيرين ممن عمقوا سلطانهم مستثمرين الصمت واللاشكوى وشكر الخالق أن بعثهم لشعوبهم التي تدعو لهم بطول العمر.
الأردن لم يكن بعيدا عن هذه التحولات؛ فقد أنجز النسخة الأردنية "تشويش واضح" بتوقيع الشبان المبدعين الذين أنضجوا موهبتهم في جامعة اليرموك، واحتضنتها قناة رؤيا التي رأت أن الجمهور تواق إلى من يقدم له ما يفيد ويمتع، بالقوالب التي تحترم عقله وذائقته، من دون اعتبار لتقديس الأشياء غير المقدسة. فقد نجح معاذ البزور ورفاقه محمد زغول ويوسف وناصر جعرون وحمزة غزو وأنس عرار وبقية أعضاء فريق العمل، في صهر المشهد السياسي الأسبوعي وتذويبه، وسكب عصارته في قوالب ولا أجمل.
العمل الذي يقوم به الفريق والمعدون والمخرج والفنيون، هو عمل يفيض بعناصر التشويق والغنى والذوق والإدراك العميق للثقافة الأردنية وذوق المشاهد واحترام العقل.
فالفريق يتمتع بخفة الظل، والجنسية الثقافية التي تدرك معاني ومرامي الفعل السياسي في البيئة البطريركية الأبوية التي يجعل السياسي من نفسه فيها وصيا على مصالح وأفكار وتطلعات وخيارات الناس. فهم؛ أعضاء الفريق، يقولون لنا وبكلمات قليلة تختزل أبوابا وفصولا من الأحداث، أننا نعي ما يدور ونفهم المبنى والمعنى.
كلما كنت في البيت وقريبا من أجهزة العرض، أحرص على مشاهدة البرنامج، وأتمنى لو يطول قليلا. وأظن، من دون مبالغة، أن البرنامج يفوق في مضامينه وتأثيره كل برامج النقد والتحليل السياسي التي نعقد من أجلها الندوات والمؤتمرات والورش. فتحية للشباب المبدع، والقناة التي رعت هذا الإبداع.