العبدلي

ثمة ثقافة سائدة تتعامل مع الاعتداء على القانون والنظام العام، باعتباره بطولة و"شطارة" و"فهلوة". هذا السلوك له "أسماء حركية" عديدة؛ منها في حالة البسطات التي انتشرت خلال السنوات العشر الأخيرة في كل مكان في عمّان، مسمى "لقمة العيش". وهو مسمى كاريكاتوري، لأنه ينطوي على ما هو مسكوت عنه في خيالنا وأفكارنا: أن الالتزام بالحق العام فيه انتقاص من مكتسبات كل فرد، وأن مراعاة حقوق الآخرين فيها تهديد لحصة كل واحد فينا من "الكعكة" التي سيكون اسمها "الوطن"، لو أن حياتنا قامت على ثنائية الحقوق والواجبات!
هكذا، إذن، سميت الفوضى على أرصفة المدينة: في جبل الحسين، وفي وسط البلد، وهنا وهناك، عملاً ولقمة عيش؛ ليس مهماً أنها تنتهك حق الناس في استعمال الرصيف، وليس مهماً أنها تنتهك كل ما له علاقة بالذائقة البصرية، وليس مهماً أنها تخلق الأزمات، بل ليس مهماً ما يباع عليها وتحتها من مسموحات وممنوعات وكراكيب، المهم فقط أنها "لقمة عيش" بملايين الدنانير، كما قال أصحاب بسطات في سوق العبدلي، احتجاجاً على نقل سوقهم إلى رأس العين!
والحال أن أصل المسألة ليست مكان السوق الشعبية، ولا هوية البائعين فيها، ولا عدد البسطات المملوكة للشخص الواحد؛ إنها في جوهرها مسألة الاستخفاف بكل ما هو عام، واستسهال انتهاكه، لصالح ما هو شخصي وفردي وخاص. "الشاطر" هو من "ينتش" أكثر، و"الزلمة" هو من يفلت بما "نتشه". وهذا سلوك جمعي لا يتوقف على صغار البائعين ولا على كبارهم، بل هو عابر للطبقات والصفات والمواقع والمجالات.
لماذا تذكرت أمانة عمّان اليوم فقط قصة مجمع العبدلي، وهو يمثل المشكلة نفسها منذ بدأ العمل به قبل بضع سنين؟ قال أحدهم إن الأمر مرتبط بإنجاز مشروع "البوليفارد"، ورغبة المتنفذين في أن لا تكون إلى جوار سوق الأثرياء سوق للفقراء! لا غرابة أن يظن بعض الناس ذلك، فقد تعودوا أن تكون قضايانا الوطنية والإنسانية النبيلة مجالاً للمتاجرة؛ حتى الدين يستعمل مجالاً للمتاجرة، فما بالك بمسألة الفقر والجوع؟! ليس غريباً إذن أن يقول مستثمرون بالملايين في بسطات العبدلي إن نقل السوق يهدد لقمة عيشهم وأولادهم، وأن يسمي آخرون تلك البسطات التي بالملايين سوقاً للفقراء!
لماذا إذن تذكرت أمانة عمّان هذه المسألة اليوم، وسكتت عنها خلال السنوات الماضية؟ أحسب أن المسألة على صلة بفهم ما هو عام وما هو خاص عند "رئيس الأمانة". ولهذا، تختلف المواقف وتتغير الخيارات والقرارات من أمين إلى آخر، وتتبدل الرؤى مع تبدل ذلك الأمين. تلك هي الإجابة الحقيقية لمن أراد أن يصدق؛ فالمسألة تتمحور حول الاستعداد المدني والقانوني لمن هو على رأس الأمانة، ولا تتمحور حول سوى ذلك. ويمكن لمواطني عمّان أن يتذكروا مراحل من التطور المدني للمدينة، ويتذكروا من كان رئيس الأمانة يومها، أو أن يتذكروا مراحل أخرى من فوضى المدينة ويتذكروا من كان وراءها يومها!
لكن "الاستعداد المدني" ليس أمراً مفهوماً في بلدنا، بل المفهوم تلك "الفهلوة" في تجاوز القانون كما قلنا. لذا، تجد أصحاب "الاستعداد المدني" مسبوقين بسوء التفسير، وهذا طبيعي؛ إذ كيف يمكنهم إفهام من يعتبرون البطولة في انتهاك ما هو عام، أنّ ثمة شيئا اسمه "حق عام" و"نظام عام" و"فضاء عام"؟! تلك لغة لا يفهمها من لا يعرفون سوى المصالح الخاصة، ولا يفكرون إلا بكيفية توظيف ما هو عام لصالح ما هو خاص.
ستنتهي قصة مجمع العبدلي، وسيتحرر نهائياً من فوضى البسطات، وستنتقل السوق الشعبية إلى موقعها الجديد المنظم في رأس العين لتكون سوقاً للفقراء بحق (لا بسطات بالملايين)، وأسعارا في متناول الجميع تحفظ "لقمة العيش".