الفكر التنويري والحرب متعددة الجبهات
هناك مدرستان تحاولان التعامل مع ظاهرة التطرف والعنف التي تجتاح المنطقة، وعلى رأسها تنظيم "داعش". المدرسة الأولى، ترى في التنظيم خطرا أمنيا وعسكريا، يشكل التصدي له أولوية تتطلب تأجيل القضايا الأخرى كافة لحين القضاء عليه. وبالتالي، فإن أي حديث عن إصلاح سياسي واقتصادي جاد، سابق لأوانه، لأن مثل هذا الإصلاح سيؤدي إلى انفلات الوضع الأمني والسياسي، وتنامي "الدواعش" بدلا من القضاء على هذه الظواهر. وكما قال الرئيس المصري جمال عبدالناصر أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، تقول هذه المدرسة "لا صوت يعلو فوق صوت القضاء على "داعش" بالطرق العسكرية والأمنية".
المدرسة الثانية ترى في "داعش" خطرا يتعدى النواحي الأمنية والعسكرية، ليشمل تهديدا ثقافيا حقيقيا للقيم الدينية والحضارية للمجتمعات العربية؛ وأن ظاهرة "داعش" هي نتيجة للفشل الجماعي للسياسات الإقصائية والاقتصادية ونظم التعليم في تطوير مجتمعات مستقرة مزدهرة تعددية، تحترم المكونات الدينية والعرقية والثقافية كافة فيها. وبالتالي، فإن التصدي الأمني والعسكري لهذه الظاهرة لا يكفي إن لم ترافقه إرادة سياسية لتحقيق تغيير حقيقي في مجمل النهج السياسي والاقتصادي، بما يضمن نظما سياسية يشعر فيها المواطن بأنه ممثَّل بحد معقول، وأن هذه النظم تعمل لخير الجميع من دون محاباة لفئات على حساب أخرى.
لا يجب أن يتجاهل أحد مسيرة في معان تحمل أعلام "داعش"، وإن كانت قليلة العدد؛ أو هتافات تخرج من بعض أصحاب البسطات في العبدلي تأييدا للتنظيم؛ لأنها في النهاية لا تعبر بالضرورة عن تأييد أيديولوجي لفكر، بقدر ما تعبر عن إحباط سياسي واقتصادي لم يعد بالمقدور تجاهله.
فكر "داعش" التكفيري العنفي الإقصائي، يجب أن يجابه بفكر تنويري سلمي إدماجي، لمعالجة الأسباب التي تودي بالناس إلى ذبح الآخرين باسم الدين. لكن دعونا نقر أن الفكر التنويري اليوم محارب من جبهتين. مؤكد أن "الداعشيين" لا يؤمنون بالحوار والعيش المشترك واحترام الآراء المختلفة وحقوق مكونات المجتمع كافة كما تلك الخاصة بالأفراد. وبالتالي، من الطبيعي أن يقف هؤلاء في وجه أي فكر تنويري. لكن المؤسف، أيضاً، أن الفكر التنويري يحارب أيضاً من الكثير من قوى الوضع القائم، التي تريد أن يقتصر هذا الفكر على النواحي الاقتصادية والثقافية، من دون أن يتعداها ليشمل فتح الفضاء السياسي، وإشعار الناس بأن صوتهم مسموع. وكأننا لم نتعلم شيئا من دروس الماضي حين أخفق الإصلاح الاقتصادي بسبب إغفال الإصلاح السياسي الذي يطور نظما حقيقية للمراقبة والمساءلة؛ وكأننا أيضا لم نتعلم شيئا من دروس الماضي التي أظهرت كيف أن تغليب مصالح الخاصة على العامة يؤدي في النهاية إلى فقدان الاثنتين؛ وكأننا لم نتعلم شيئا من الماضي بأن المنظور الأمني الصرف لم يؤد يوما إلى مجتمعات مستقرة على المدى الطويل؛ و كأننا لا ندرك بعد أن الفكر التنويري لا تتم تجزئته، وأنه لن يسود إلا إذا تناول القضايا كافة. الفكر التنويري الانتقائي ليس بفكر، ولا بتنويري.
وبعد؛ ليسمح لنا الزميل معالي وزير الشؤون السياسية والبرلمانية حين يصرح ان بعض المنادين بالإصلاح يتجاهلون ما أنجز من قوانين. فكم من قوانين أنجزت في الماضي؟ وكم من جهد إصلاحي أجهض رغم القوانين؟ وأنا أتكلم عن تجربة. إما أن تتوفر الإرادة لمجتمع تنويري، مع كل ما تعنيه هذه الكلمة من أطر سياسية واقتصادية وتعليمية مرافقة، أو نُبقي الإصلاح يطال الهوامش دون الجوهر، وننتهي بدفع الثمن.
معضلة الفكر التنويري أنه يحارب على أكثر من جبهة. وبالتالي، هي معركة طويلة الأمد، قد لا تنجح. لكنها ضرورية إن أردنا ليس فقط القضاء على "داعش"، وإنما العيش في مجتمعات تنويرية.