العالم الذي أرعبه فصل في كتاب!!
إنه الفصل الأخير من كتاب السلام العالمي والإسلام، أحد بواكير مؤلفات الشهيد سيد قطب في مرحلة العودة إلى الذات، والغوص في أعماق بحر القرآن الكريم، ليستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، بعد أن ذاع صيته شاعرا وكاتبا وناقدا، ولكنه وجد نفسه في كتاب الله الخالد، الذي جعل من رعاة الغنم رعاة الأمم، وأرسى قواعد حضارة أنارت الكون، وظلت مثلا أعلى للبشرية تتطلع اليه، ولن تبلغه إلا من الباب الذي ولجته أول مرة.
كتاب سيد هذا الذي ظهر بطعبته الاولى عام 1951، اختفى من طبعاته اللاحقة والعديدة الفصل الأخير بعنوان (والآن.......)، حتى نسيه الناس، الى أن قيض الله له نفرا من الدعاة والمحسنين، استعادوا الطبعة الاولى للكتاب، واستخرجوا منها الفصل الشهيد، وأعادوا طباعته مستقلا في كتيب قدم له الأديب الاستاذ عبدالله الطنطاوي بمقدمة تليق بأهمية هذا الفصل.
وتولت طباعته دار عمار للنشر والتوزيع في هذا العام بعنوان: الفصل الشهيد (والآن...) من كتاب السلام العالمي والإسلام، ولدى تسلمي نسخة من هذا الكتاب سارعت إلى قراءته بقدر من التركيز، لأقف على أسباب إعدامه، كما أعدم مؤلفه لاحقا، ظنا ممن ارتكبوا هذه الجناية أنهم سيصادرون فكره، ويحولون بينه وبين الناس، فكان تراثه الفكري حيا بحياة الشهيد، يطبع المرة تلو المرة، عابرا للقارات، مسهما إسهاما عظيما في الصحوة الإسلامية، التي غدت أمل البشرية في حياة حرة كريمة، لاسلطان فيها على العباد إلا سلطان خالق الخلق، والملك الحق، الأعلم بما يصلح للعباد، ويصلح حياتهم. وقد استوقفني أول ما استوقفني مطلع الفصل الذي يؤكد فيه أن السلام يقوم على أسس من العدالة المطلقة، ومن الخير الشامل، تحقيقا لكلمة الله، وإلا فالجهاد الدائم لتحقيق هذه الكلمة، والكفاح الدائم لدفع البغي والعدوان، والصراع الدائم مع الفساد والشر والطغيان.
عندها أدركت أن المؤلف دخل حقل ألغام، ومنطقة محظورة، ودخولها يعرضه للخطر، وقد كان، فهو لا يتحدث عن سلام المغلوب مع الغالب، والضحية مع الجلاد، والحمل مع الذئب، وإنما يتحدث عن سلام يستند إلى مبادئ الحق والعدل والخير، تحقيقا لكلمة الله، وإلا فالجهاد والكفاح والصراع لدفع البغي والعدوان والفساد والشر والطغيان، وهذا ما لا تقبل به الدول المستكبرة، التي بنت رخاءها على حساب تعاسة الشعوب المقهورة، ولا الأنظمة الفاسدة المستبدة، التي حكمت بالحديد والنار وبمنطق فرعون موسى القائل (أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي) و(ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). وبعد هذه المقدمة الجامعة يمضي في التفصيل تحت عناوين فرعية منها: أمريكا تقرع طبول الحرب، أمريكا تدفع أوروبا للحرب، غاية مشروع مارشال تصريف فائض الانتاج، انتشار البطالة بين الأمريكين، أمريكا تخطط لحرب شاملة، اعتماد أمريكا على الطبقات الحاكمة وليس الشعوب، العرب ومواردهم وقود الحرب الأمريكية.
وهو تعبير عن فهم عميق ومتقدم للثقافة الأمريكية، والأهداف الأمريكية، في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية، وقد استبد بها الغرور، والتعطش للهيمنة، بعد أن استخدمت كل أسلحتها بما فيها النووية لقهر الشعوب، واختفت من قاموسها المحرمات، وهي معرفة نابعة من معايشة مباشرة وطويلة للأمريكان، وسبر لاغوار الثقافة الأمريكية، فأمريكا لا تسطيع العيش الا باشعال الحروب، التي تجد فيها فرصتها لإدارة عجلة الصناعة، ولاسيما الصناعات الحربية، ولتشغيل العاطلين عن العمل، ولاستنزاف موارد الشعوب وثرواتها بعد فرض هيمنتها عليها. ورؤية سيد قطب للأهداف الأمريكية وأطماعها في الارض العربية والاسلامية لا تدفعه إلى الوقوف مع المعسكر الاشتراكي، فهو يرى في الكتلتين وجهين لعملة واحدة، فهما متعاديتان ظاهرا متفقتان باطنا، وهو يدرك خطورة الانحياز لأي منهما، ويحذر من تسيد إحداهما المشهد، وهو ما ثبت بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، حيث تفردت الادارة الامريكية وتوحشت دون رادع من خلق أو ضمير.
واستراتيجية الحرب التي تنتهجها الولايات المتحدة تقوم على اشعال الحرائق على أراضي الغير، ولاسيما العربية والاسلامية بل يذكرها بالاسم، ويسمي منها: تركيا وايران والعراق وسوريا ومصر والشمال الافريقي وباكستان وأفغانستان. ومن يتابع نشرات الأخبار يدرك كيف كان سيد قطب سابقا لزمانه بأكثر من ستين عاما. ولا يكتفي سيد قطب بتشخيص الداء بل يصف له الدواء الناجع. فهو يرى في بروز كتلة ثالثة لا شرقية ولا غربية، وفي مواجهة المحتلين وأعوانهم، وفي اضطلاع الشعوب بدورها الحقيقي الخلاص الحقيقي للأمة من الهيمنة الأجنبية ومن استبداد السلطة وفسادها.
هذا التصور لأهداف القوى الكبرى، والدعوة إلى بديل حضاري، يستند الى قيم الامة، والثقة بامكانات الأمة إذا عرفت كيف تجبر حكامها والمستغلين فيها على انتهاج سياسة إسلامية خالصة، وتنظم اقتصادها، وتوحد كلمتها، وتنتزع قرارها، يشكل منهجا للإصلاح والتغيير، وتحقيق الاستقلال الناجز، وهو الذي جر على سيد قطب سخط قوى الاستكبار، والحكام الفاسدين، والاعلام المتصهين والمستغرب، كما أدى الى إعدام هذا الفصل من الكتاب، وإلحاق صاحبه به بعد أقل من عقدين من الزمان. لكن الروح التي أيقظها سيد قطب لن تفلح قوى الارض في إزهاقها، وستبلغ غايتها مهما اشتد الظلام والعواء من حولها (ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا).
كتاب سيد هذا الذي ظهر بطعبته الاولى عام 1951، اختفى من طبعاته اللاحقة والعديدة الفصل الأخير بعنوان (والآن.......)، حتى نسيه الناس، الى أن قيض الله له نفرا من الدعاة والمحسنين، استعادوا الطبعة الاولى للكتاب، واستخرجوا منها الفصل الشهيد، وأعادوا طباعته مستقلا في كتيب قدم له الأديب الاستاذ عبدالله الطنطاوي بمقدمة تليق بأهمية هذا الفصل.
وتولت طباعته دار عمار للنشر والتوزيع في هذا العام بعنوان: الفصل الشهيد (والآن...) من كتاب السلام العالمي والإسلام، ولدى تسلمي نسخة من هذا الكتاب سارعت إلى قراءته بقدر من التركيز، لأقف على أسباب إعدامه، كما أعدم مؤلفه لاحقا، ظنا ممن ارتكبوا هذه الجناية أنهم سيصادرون فكره، ويحولون بينه وبين الناس، فكان تراثه الفكري حيا بحياة الشهيد، يطبع المرة تلو المرة، عابرا للقارات، مسهما إسهاما عظيما في الصحوة الإسلامية، التي غدت أمل البشرية في حياة حرة كريمة، لاسلطان فيها على العباد إلا سلطان خالق الخلق، والملك الحق، الأعلم بما يصلح للعباد، ويصلح حياتهم. وقد استوقفني أول ما استوقفني مطلع الفصل الذي يؤكد فيه أن السلام يقوم على أسس من العدالة المطلقة، ومن الخير الشامل، تحقيقا لكلمة الله، وإلا فالجهاد الدائم لتحقيق هذه الكلمة، والكفاح الدائم لدفع البغي والعدوان، والصراع الدائم مع الفساد والشر والطغيان.
عندها أدركت أن المؤلف دخل حقل ألغام، ومنطقة محظورة، ودخولها يعرضه للخطر، وقد كان، فهو لا يتحدث عن سلام المغلوب مع الغالب، والضحية مع الجلاد، والحمل مع الذئب، وإنما يتحدث عن سلام يستند إلى مبادئ الحق والعدل والخير، تحقيقا لكلمة الله، وإلا فالجهاد والكفاح والصراع لدفع البغي والعدوان والفساد والشر والطغيان، وهذا ما لا تقبل به الدول المستكبرة، التي بنت رخاءها على حساب تعاسة الشعوب المقهورة، ولا الأنظمة الفاسدة المستبدة، التي حكمت بالحديد والنار وبمنطق فرعون موسى القائل (أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي) و(ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). وبعد هذه المقدمة الجامعة يمضي في التفصيل تحت عناوين فرعية منها: أمريكا تقرع طبول الحرب، أمريكا تدفع أوروبا للحرب، غاية مشروع مارشال تصريف فائض الانتاج، انتشار البطالة بين الأمريكين، أمريكا تخطط لحرب شاملة، اعتماد أمريكا على الطبقات الحاكمة وليس الشعوب، العرب ومواردهم وقود الحرب الأمريكية.
وهو تعبير عن فهم عميق ومتقدم للثقافة الأمريكية، والأهداف الأمريكية، في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية، وقد استبد بها الغرور، والتعطش للهيمنة، بعد أن استخدمت كل أسلحتها بما فيها النووية لقهر الشعوب، واختفت من قاموسها المحرمات، وهي معرفة نابعة من معايشة مباشرة وطويلة للأمريكان، وسبر لاغوار الثقافة الأمريكية، فأمريكا لا تسطيع العيش الا باشعال الحروب، التي تجد فيها فرصتها لإدارة عجلة الصناعة، ولاسيما الصناعات الحربية، ولتشغيل العاطلين عن العمل، ولاستنزاف موارد الشعوب وثرواتها بعد فرض هيمنتها عليها. ورؤية سيد قطب للأهداف الأمريكية وأطماعها في الارض العربية والاسلامية لا تدفعه إلى الوقوف مع المعسكر الاشتراكي، فهو يرى في الكتلتين وجهين لعملة واحدة، فهما متعاديتان ظاهرا متفقتان باطنا، وهو يدرك خطورة الانحياز لأي منهما، ويحذر من تسيد إحداهما المشهد، وهو ما ثبت بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، حيث تفردت الادارة الامريكية وتوحشت دون رادع من خلق أو ضمير.
واستراتيجية الحرب التي تنتهجها الولايات المتحدة تقوم على اشعال الحرائق على أراضي الغير، ولاسيما العربية والاسلامية بل يذكرها بالاسم، ويسمي منها: تركيا وايران والعراق وسوريا ومصر والشمال الافريقي وباكستان وأفغانستان. ومن يتابع نشرات الأخبار يدرك كيف كان سيد قطب سابقا لزمانه بأكثر من ستين عاما. ولا يكتفي سيد قطب بتشخيص الداء بل يصف له الدواء الناجع. فهو يرى في بروز كتلة ثالثة لا شرقية ولا غربية، وفي مواجهة المحتلين وأعوانهم، وفي اضطلاع الشعوب بدورها الحقيقي الخلاص الحقيقي للأمة من الهيمنة الأجنبية ومن استبداد السلطة وفسادها.
هذا التصور لأهداف القوى الكبرى، والدعوة إلى بديل حضاري، يستند الى قيم الامة، والثقة بامكانات الأمة إذا عرفت كيف تجبر حكامها والمستغلين فيها على انتهاج سياسة إسلامية خالصة، وتنظم اقتصادها، وتوحد كلمتها، وتنتزع قرارها، يشكل منهجا للإصلاح والتغيير، وتحقيق الاستقلال الناجز، وهو الذي جر على سيد قطب سخط قوى الاستكبار، والحكام الفاسدين، والاعلام المتصهين والمستغرب، كما أدى الى إعدام هذا الفصل من الكتاب، وإلحاق صاحبه به بعد أقل من عقدين من الزمان. لكن الروح التي أيقظها سيد قطب لن تفلح قوى الارض في إزهاقها، وستبلغ غايتها مهما اشتد الظلام والعواء من حولها (ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا).