يا سيدي الرقيب
في العيد وأنت متجه للزرقاء , تصادف حاملة دبابات متجهة للشمال ...ويسألك الأولاد عن الدبابة المربوطة في الناقلة , ربما هي المرة الأولى التي يروا فيها شيئا بهذه الضخامة ...وتخبرهم عنها وتحاول أن تبسط لهم الأمر ...وتشرح بإسهاب
اصعب مهنة في العالم هي قيادة ناقلة دبابات , تخيلوا أن وزن الدبابة يبلغ (56) طنا ووزن الناقلة يصل لـ ( 25) طنا تقريبا , وعليك أن تقود بحذر شديد جدا ..وتعرف المسارات واتساع الشارع ...وتعرف متى تستعمل المكابح ومتى تتوقف .. ومتى تنحرف في الإتجاه.
من هو سائق الناقلة ؟...بصراحة رأيت رتبته العسكرية كان يضع زنده على الشباك هو رقيب , ويرتدي (فوتيك) ..وكان يمسك المقود بحذر شديد , وأنا عبرت عنه بسرعة ..لأن عرض الناقلة كان يأخذ مساحات واسعة من الطريق ...
أتسمح لي يا سائق الناقلة أن أناديك سيدي ..أنا أعرف أنه العيد وأنك يجب أن تكون جالسا الان في مادبا أو مريغه أو الكرك أو العين البيضا ..لا أعرف أين ولكن بالضرورة قرية نائية ..أعرف أنه يجب أن تكون جالسا مع الأولاد ومع العائلة ...محتفلا بالعيد , ولكنك لم تفعل ذلك ..فثمة أمر عسكري يجب تنفيذه وأنت فعلت ذلك ...سيدي .
كم أخذت معك المسافة سيدي ؟ ...وهل كنت تراقب ..ضغط الهايدروليك جيدا في مكابح الناقلة ؟ ...كم ذرفت من العرق سيدي , وكم شربت كوبا من الماء ؟ ...وكم لوحت بيدك الحانية النبيلة , للسيارات القادمة من خلفك بأن تعبر ؟ ...
قل لي سيدي الرقيب ...كم طفل لديك ؟ ..أعرف أنك ستصل للمكان الذي ستربض فيه الدبابة , وسيكون لديك متسع من الوقت كي تهاتف الأولاد ..وأدري , أن أي خلل في قيادة الناقلة سيتسبب بكارثة , لكنك لا تخطيء يا سيدي ويا ابن التراب الأردني ..النبيل , ويا ابن تعبي ..وتعب الخطى التي لا تعرف إلا البلد دربا وملاذا ..
أعتذر لك سيدي الرقيب أني أركب سيارة فيها (كوندشن) وكامل وسائل الراحة والكرسي الذي أجلس عليه أتحكم فيه أتوماتيكيا , وأنت تجلس خلف مقود ناقلة دبابات وقلبك ينبض , وتعرف وأعرف أنك تحت الخطر ...أعتذر لك , ولكني أفهم يا سيدي الرقيب شيئا واحد لا يفهمه البعض وهو :-..أن كل قطرة عرق في جبينك الأغر , هي قصة وفاء للبلد وأهلها , وكل شربة ماء تبلل بها ريقك وأنت تقود الناقلة ...هي غيمة تضلل شعبنا ....أنت أكبر مني سيدي الرقيب وأنا صغير أمام قامتك , وتمنيت لو أن العسكرية تسمح أن أوقف الناقلة قليلا على يمين الطريق وأصعد لقامتك العالية وأقبل يدك ..ثم أعود .
تركناك في العيد يا سيدي الرقيب , تنقل الدبابة للواجهة الشمالية مفعما بالرضى وطيب الخاطر ...ولم ندرك بعد أنك الوطن والهوية والهوى ..وأنك ما في الوريد من دم وحياة ...
لو لم يكن معي الأولاد في السيارة لتبعت خطاك يا سيدي الرقيب إلى الحد الذي ستوصل به الدبابة , للواجهة الشمالية ...ولتشرفت بأن أنحني أمام جبهتك , على الأقل يا رفيقي وابن دمي ولحمي ووطني ...أنت الوحيد الذي يؤمن بأن العيد لديه هو إيصال حمولة من الحديد تحمي بها وطنا من الصبا والتاريخ والأيام والحب ...
ثاني أيام العيد وفي الطريق للزرقاء , كنا جميعا في عطلة ولكن الجيش لا يؤمن بالعطلة ...كان هناك ناقلة دبابات , يقودها رقيب من تراب البلد ...وأوصلها للمكان الذي سيجثم فيه مدفعها ... ولأني يا سيدي الرقيب لا أملك مالا ولا منصبا ولا جاها ولا مجدا ولا سيفا ...أملك فقط خطاي والكلمات , وددت في العيد أن أكتب لك هذا الكلام ,اقول لك يا سائق الناقلة :- أنك الأعز والأغلى ..وأنك الفارس النبيل الطيب وأنك (ملح البلاد) وهواها ....
يا سائق الناقلة ..يا سيدي الرقيب , فداك ...قلمي وكل نبض الحروف .