هليوكبتر الملك
أخبار البلد - ماهر ابو طير
لا أجمل من تلك الصورة التي تجمع الملك بالناس بتلقائية و دون تخطيط، فهذا ملك مشرقي، عربي، لا يصح أبدا إلا أن يكون بين الناس، وهذا موروث عمره آلاف السنين، لا يصح أيضا تركه في ليلة.
إذ ترى الملك يحقق أمنية ثلاثة أطفال من مرضى مركز الحسين للسرطان، ويصطحب اثنين منهما بطائرة الهليوكبتر، يقود الطائرة بهما ويحلق عاليا، و وجهه يهلُّ بالبشر، و وجه الطفلين مثل قمر من ورد، تعرف أن السرَّ هو في الناس، هكذا كان، ولا بد أن يبقى، فللناس جاه عند الله لا يرد أبداً.
في العلاقة مع الناس، مدارس، بعض الليبرالية المتوحشة في هذه الدنيا، تقول إن الدور الأبوي للدولة يجب أن ينتهي، ولا تريد أن تقدم لك بديلا عن هذه الأبوية.
لا يريد بعضهم أن يعطيني تصورا واضحا للحقوق والواجبات، فما يهم هذا النفر، قطع الحبل السري بين العرش والناس، ربما بحسن نية، أو سوء نية، أو إعادة إنتاج لمشرقية الدولة والناس.
آخرون يقولون لك إن الدور الرعوي يجب أن ينتهي، فتكتشف لاحقا، أن كل القصة تتعلق بفض الناس، عن دولتهم، وتركهم أسارى لأي شيء آخر، لأن الذي لا يريد الدور الرعوي عبر الفرد الرمز، عليه أن يقدم لنا دورا رعويا عبر الدولة.
لا توجد دولة في الدنيا لا دور رعويا لها، إما بتعليمات أو أنظمة وقوانين، إلا إذا كنا امام مفهوم جديد يريد العباقرة تسويقه علينا، أي تحويلنا الى مجمع سكني للأيتام، بلا رعاية دستورية ولا أب يستبدل المال بالاطلال علينا، كل يوم، وكل لحظة، دون ملل !.
وجه الطفلين وهما في طائرة الهليوكبتر، يبتسمان مثل قمر وردي، يساوي الدنيا، ومن فيها، وكنا نقول دوما، إن خاطر المرضى والفقراء والمساكين والأمهات، والعجائز والضعفاء، يرد العاتيات عن بلد بأكمله.
تسمع أحيانا مسؤولا من الصف الخامس يقول إن هذا شعب كثير التطلب، وكأنهم يطلبون من بيته شخصيا، فترد عليه...دعهم يطلبون ، ولمَ لا، ولو توافرت احتياجاتهم لما طلبوا أصلا ياهذا !.
ذات مرة صعد الملك الراحل بطائرته الهليوكبتر العسكرية، وكان يقودها، من حرم جامعة مؤتة، واذ ارتفعت به، رأى «صاحبة مدرقة» تنادي وتصرخ، والموظفون يبعدونها بعنف عن مدرج الطائرة.
غضب وهبط بالطائرة مجددا، ونزل الى العجوز مستمعا إلى قصتها، ومظلمتها، ملبيا حاجتها، فكم رفعه عند الله، هبوطه لأجلها، وكم أعزَّه الله، مقابل صبره وكرمه !.
الملك لا يبخل على الناس، لكنه قليل الدعاية لشأنه، وهو أيضا، لا يخلو من هموم كثيرة، لكننا في صورته وهو يلبي أمنيات ثلاثة أطفال مصابين بالسرطان، نفهم معنى التماسك الذي دعا اليه قبل أيام، فالناس، هم سوار هذا البلد، وهم سره، وهذا أوان إحياء التماسك وإنعاشه.
هذا شعب، لا يغدر ولا يعرف الأحقاد، ولو سار الملك بينهم ليل نهار، لما وجد إلا بيتا له في كل مكان، حتى لا نبقى أسارى لمدَّعي محبته ممن يقولون إن هناك خوفا عليه، فمن هو الذي سيغدره لا سمح الله؟!.
مناخات الربيع العربي وما قبلها، وما نحن فيه اليوم، مناخات حساسة، لكن كل هذا لا يمنع أبدا أن نعيد النظر في كل حياتنا، فمن حقا شعبنا أن يحصل على حقوقه ويؤدي واجباته، ومن حقه أن يشكو وأن يتذمر وأن يطلب أيضا، وأن يتم الاستماع اليه، حتى لا نبدد طيبته ونخسرها دون داع.
ليس لأنه معتاد على التطلب كما يقول أحدهم، بل لأنه محتاج، ولأن الملك هاشمي، وشرعية التاريخ اساسا تمتد الى اطعام هاشم للناس، منذ آلاف السنين.
فرق كبير بين الاستغراق بصناعة صورة إعلامية، وبين الصورة التي تأتي طبيعية، والأولى منهكة ولا تصل الى الناس، والثانية طبيعية من القلب الى القلب.
نقول للملك في هذا الصباح، نريدك دوما بين الناس -كما هو دأبك- ولك عند شعبك فضيلتان، الأولى عبورك بالاردن وسط العاتيات، فلم يذبح البلد كما جيرانه.
والثانية صبرك بلا سقف أو حدود على كل الشجعان الإلكترونيين، ومراجلهم، التي لم نرَ مثلها، لولا صبرك في الاساس، وهي ميزة لك، وليس لهم في كل الأحوال.
وطنٌ يستحق أن يبقى، ولأجل هذا يستحق عملا مختلفا، خاصة، في هذا التوقيت.