يا لهذا الذكاء!

 

يا لهذا الذكاء؛ قرابة أسبوعين والرأي العام يلوك في سمعة مؤسسات الدولة ورموزها، فيما الرواية الحقيقية لحفريات عجلون في أدراج المسؤولين. والحجة أنها أسرار عسكرية لا يصح كشفها. لنكتشف، وبعد أيام فقط، أن كلفة البوح بهذا السر العظيم لا تعادل واحدا بالمائة من حجم الضرر الواقع على سمعة المؤسسات ومصداقيتها.
لم يبق صغير أو كبير في البلاد إلا وسخر من روايات المسؤولين المتعددة والمتناقضة، وكذبها. ومع كل تصريح جديد، كانت القناعة بقصة الذهب تكتسب قبولا أكبر في أوساط الرأي العام.
كانت سمعة المؤسسات والرموز تنزف كل لحظة، وبكل قنوات التعبير المتاحة، على مرأى ومسمع من أولئك المسؤولين الذين احتشدوا في المؤتمر الصحفي أمس. لم يشعر هؤلاء بخطورة الإشاعات على البلد إلا بعد أسبوعين، كادت الأمور خلالها أن تفلت في مدينة عجلون، ويقع الصدام بين الأهالي الغاضبين والواهمين وقوات الدرك. ذلك السلوك يعطي دلالة على تدني الحس بمزاج الناس، وافتقاد القدرة على توقع الأزمات قبل وقوعها.
لم نفهم السبب وراء إخفاء الحقيقة؛ القول إنها "أسرار عسكرية" ليس كافيا لتبرير القرار. هل لأن إسرائيل طرف في العملية؟ أم هي الرغبة في اخفاء الحقيقة المتعلقة بالتجسس الإسرائيلي؟ لاحظوا أن هذه هي المرة الثانية التي نستعين فيها بإسرائيل لحل مشكلة من صنعها. في حادثة خالد مشعل ومحاولة اغتياله في عمان، اشترطنا على الإسرائيليين توفير الترياق قبل ترحيل عملاء الموساد.
رواية الجيش بشأن ما حصل في عجلون، مقنعة ومتماسكة. وقد دعمها بالصور التي توثق عمليات الحفر وتفكيك الألغام التي وضعت حول أجهزة التجسس على خطوط اتصالات الجيش قبل أكثر من أربعين عاما. كما تأكد لوسائل الإعلام دقة المعلومات التي أدلى بها رئيس هيئة الأركان المشتركة بشأن التفجير الذي وقع على طريق المفرق-الخالدية، في شباط (فبراير) من العام الماضي.
كل ذلك كان صحيحا ودقيقا، لكنها رواية متأخرة جدا، سبقتها روايات رسمية لم تصمد أمام الرواية الشعبية عن صناديق الذهب الخالص. الأرجح أن أحدا لن يشكك في ما ورد من بيانات موثقة من طرف قيادة الجيش، لكن الضرر وقع على سمعة الدولة ومؤسساتها، ويصعب إصلاحه بسهولة.
لقد استنزفت الدولة في الأسبوعين الماضيين قدرا كبيرا من مخزون الثقة الشعبية الشحيح أصلا. لكن الأخطر من ذلك أن حادثة حفريات عجلون قدمت دليلا إضافيا على أن مؤسسات الدولة تعمل كجزر معزولة؛ رئيس الوزراء لا يعلم بالعملية العسكرية إلا بعد تنفيذها، والوزراء يلفقون روايات من دون معرفة بالحقائق، ومجلس النواب ولجانه يحرثان الأرض بحثا عن الذهب، من دون أن يتحرك أحد من المسؤولين لتجنيبهم هذا الموقف المحرج أمام الرأي العام. الإعلام الجاد والمسؤول كان مغيبا عن الصورة تماما، وكان من الطبيعي ساعتها أن تملأ الإشاعات على مواقع التواصل الاجتماعي الفراغ الحاصل جراء نقص المعلومات.
وسط حالة الفوضى هذه، ليس من حقنا أبدا أن نعتب على شعب مغلوب على أمره، صدق الرواية المزعومة عن أطنان الذهب، ولاحق الإشاعات؛ فالارتجال الرسمي في إدارة "عملية" محدودة، والتخبط في التصريحات، يدفع أشد العاقلين إلى تصديق رواية "الكنز".
لا تسألوا الناس بعد اليوم لماذا لا تثقون بالمؤسسات والمسؤولين؛ اسألوا أنفسكم، وبعد ذلك فليدفع المقصرون الثمن. ينبغي أن لا تمر الحادثة من دون مساءلة.