جمال عبدالناصر: في حضرة.. «الحضور»!
وكأنه غادرنا اليوم.. فالذكريات المجيدة «طازجة»، رغم الاحزان والخسارات.. اربعة واربعون عاماً انقضت على غياب جسد جمال عبدالناصر، لكن روحه باقية وانجازاته شاهدة على آماله وطموحاته التي التقت حدود التلاحم مع بسطاء المصريين وفقراء العرب، الذين رددوا خلفه الشعارات القومية التي تتغنى بالسيادة الوطنية والكرامة ومجد هذه الأمة العظيمة، التي لم تفقد روحها ولم تتنكر لمبادئها، ولم تُدِرْ ظهرها لقناعاتها الراسخة في النصر والتحرر من ربقة الاستعمار والتبعية، ولم تُضع البوصلة في اعتبار اعداء الداخل مجرد طابور خامس او عاشر يخدم الاجنبي ويبيع مصالح الأمة مقابل «أقلّ» من ثلاثين فضة سواء اطلق لحيته او اعفاها، فلا يهم المُستَعمِرْ الابيض، «لون» الانسان العالم ثالثي وطبيعة «زيّه» فربطة العنق لا تختلف كثيراً لديه عن العمامة، بيضاء بطربوش كانت أم بدونه، حتى لو اسودّت واشرّت على نَسَبٍ ما، كما لا تعنيه «البدلة» ذات المنشأ الايطالي الفاخر ام الباريسي الحالم او حتى عن «سقف السيل» ومن مُخلّفات ابناء العم سام (نيكسون وشركاه)، كذلك الحال مع الدشداشة سواء كانت افغانية قصيرة ام مُقصّرة، أم جاءت شديدة البياض والشياكة وباهظة الثمن.
ما دام يُنفذ الامر ولا يخرج عن نصوص الشعارات المحددة سلفاً، ولهذا لم يزعجه كثيراً شعار «الاسلام هو الحل» ولا اثرّت فيه هتافات تذكير اليهود بخيبر والاحتمالات الواردة لعودة «جيش محمد» الذي احتكر الاخوان المسلمون استحضاره وقيادته، ورأينا كيف تخلى الإخوان (إياهم) عن كل تلك الشعارات ومرة واحدة، عندما وصلوا (أو أُوْصِلوا) الى حكم اكبر دولة عربية هي مصر.. مصر عبدالناصر ولم يكن ينقص اعضاء مكتب الارشاد او مندوبهم في قصر الاتحادية الرئاسي، محمد مرسي، سوى الذهاب الى ضريح عبدالناصر وابلاغ الجثمان الطاهر في منشية البكري، بأننا قد «عدنا يا عبدالناصر» تماماً، كما فعل غورو الفرنسي عندما ضرب بحذائه ضريح صلاح الدين الايوبي في دمشق، وقال قولته الشهيرة امام جثة شبعت موتاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين..
لهذا لم يكن جمال عبدالناصر مخطئاً، عندما قال وقبل نصف قرن قولته الشهيرة: «الإخوان مالْهُمْشِ أمان»، وها هي الأيام تثبت صحة ودقة وصوابية القراءة الناصرية لهذا التنظيم، الذي لا يتوقف عن الاساءة لجمال عبدالناصر واختلاق الاكاذيب عنه وشيطنته، رغم مرور اربعة عقود ونيف على رحيله، في الوقت ذاته الذي يخلعون صفات النبوة والملائكية على قادتهم ورموزهم الذين نفخوا فيهم طويلاً وكثيراً من امثال حسن البنا الذي يصفونه بالشهيد ويضفون هالة مقدسة على «نبيّ» العنف والتكفير والقتل سيد قطب، الذي هو في واقع الحال الاب الروحي والشرعي «للدواعش» التي نبتت كالفطر في ارضنا وفضاءاتنا، وكانت على الدوام العدو الأول للعروبة وقيم الوحدة والقومية والوطنية، منذ ان تحالفوا مع كنز اسرائيل الاستراتيجي «الحقيقي» انور السادات، قبل ان يحظى حسني مبارك بهذه الرتبة» وخصوصاً عندما بدأ العنف الطائفي في مصر مباشرة بعد تسلمه الحكم في غفلة من الزمن ومن خلال خطأ لا يغتفر لجمال عبدالناصر الذي جاء به نائبا اول له عندما ذهب الى القمة العربية في المغرب في خريف العام 1969، وعلى وقع شائعة «استخبارية» تم تسريبها بأن خطة لاغتياله قد تكون وصلت الى مراحلها النهائية، فلم يجد غير السادات علماً ان حسين الشافعي كان في الموقع ذاته، دون ان يكون النائب الاول، وعندما عاد الى القاهرة «نسيّ» ان يُلغي قراره فبقي «المُهرّج» في موقعه حتى حلّ قضاء الله الذي لا راد له.
في ذكرى رحيل جمال عبدالناصر يتطلع العربي حواليه، فيجد بعض «نور» في نهاية النفق المظلم الطويل الذي نعيشه، إذ رغم كل ما قارفه الاخوان المسلمون وتيار الاسلام السياسي من تدليس وعنف وارهاب وكذب ومراوغة واستخدام «بارع» لازدواجية اللغة والمواقف، فإن شعوب الأمة لم تفقد بعد تفاؤلها في حدوث تغيير نوعي وعميق في حياتنا، لا تقتصر على تحجيم الاخوان وكبح جماح التيارات التكفيرية والجهادية، وانما ايضا في الانتصار على انظمة الفساد والاستبداد والافقار والقمع والإذلال التي طال امساكها بثروات وقرارات وكرامات ابناء هذه الأمة المجيدة، فضلاً عن تعميق الهوة بين الاغنياء والفقراء وسيادة البطالة وروح الاغتراب والغربة عن المجتمعات التي تدفع نحو التطرف والارهاب والعدمية.
في ذكرى رحيل جمال عبدالناصر يجدر بالذين خدعتهم أضاليل «الاخوان» وأكاذيبهم، أن يلحظوا الفارق بين ما انجزه وفعله وكرّسه جمال عبدالناصر، رغم بعض الاخطاء والخطايا ربما–وبين ما وصلنا اليه على ايدي اعداء عبدالناصر وفي مقدمتهم «الاخوان» ورعاتهم عبر المحيطات في لندن وواشنطن وبرلين وخصوصاً انقرة وبعض البلاد العربية.
.. سلام على صديق الفقراء والمدافع عن العدالة الاجتماعية جمال عبدالناصر، يوم ولد ويوم عاش ويوم يبعث حياً مع الشهداء والصدّيقين.