الأردن يتهيأ للحرب على "داعش"!

يقترب الأردن من خط النار مع بدء العد التنازلي لتحديد مهمات حلفاء أميركا وأدوارهم، بينما يصطفون وراء خطة ضرب تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق وسورية، وسط انقسام نخبوي ومجتمعي بشأن مآلات حرب مفتوحة على الاحتمالات كافة، بما فيها مخاطر عمليات إرهابية انتقامية.
يأتي هذا التسارع بعد سنوات من مراوحة الغرب في التعاطي مع ملفي العراق وسورية النازفين. فبعد "خراب البصرة"، تدخل قوى دولية وإقليمية للإمساك بخيوط قضايا المنطقة خدمة لمصالحها، بعد أن ساهمت "مؤامراتها" في تمدد السلفية الجهادية المسلحة -"داعش" وأخواتها- بهدف إسقاط النظام السوري، أو وقف التمدد الإيراني عبر العراق. فاليوم ينقلب السحر على الساحر.
وقد بات التصدي لهذه التنظيمات ضرورة ملحة وليس ترفا. فهذه القوى الظلامية المناهضة للحداثة وللتعددية السياسية والدينية وللإسلام المعتدل تهدد أمن الأردن واستقراره، كما سائر العالم، مدعومة بحواضن مجتمعية ونكوص سياسي واقتصادي، في حال نجحت في تأسيس دولتها على أجزاء من العراق وسورية. ولم يعد هناك أي مجال لخمول الأردن ولبنان والعراق ودول الخليج.
نقطة التحول كانت يوم الخميس الماضي في جدة بالسعودية، حيث وافقت الدول العربية وتركيا (مع تحفظات) على الانخراط في التحالف الدولي ضد "داعش"، بدلا من البقاء في خلفية المشهد بانتظار النجدة من الولايات المتحدة التي تتحمل مسؤولية رئيسة في نمو الفكر المتطرف ونشر أيديولوجيا الكراهية، بسبب فشلها في التعامل مع ملفات الشرق الأوسط الملتهبة.
اجتماع جدة بمشاركة وزير خارجية أميركا جون كيري، جاء غداة إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن خطته الإشكالية طويلة المدى للقضاء على تهديد تنظيم "الدولة الإسلامية".
وقد وافقت هذه الدول على الانضمام للحملة العسكرية المنسقة ضد "داعش"، وإلى جوانب عديدة من الجهد "إذا اقتضت الحاجة"، بحسب البيان الختامي، من دون توضيح طبيعة المشاركة.
انعكاسات ذلك الاجتماع على الأردن ستتجلى في القادم من الأيام. وهي تتطلب تهيئة الرأي العام للدور الذي ستلعبه المملكة ضمن هذه الحملة، في منطقة تعارض شعوبها أي تدخل عسكري غربي. كما تبدي مكونات مجتمعية تعاطفها مع "داعش" من باب أنه تنظيم مناوئ لأميركا حامية إسرائيل والمعادية للمسلمين. كما ترى هذه المكونات في التنظيم أيضا مصدّا للمجتمعات العربية السُنّية في مواجهة خطر التمدد "الشيعي". ويجاهر البعض بتوجهاته "الداعشية"، وسط تداعي منظومة القيم التي تحكم المجتمع، وانهيار السلطة الأخلاقية للدولة. ويرافق ذلك شعور بضعف مبدأ سيادة القانون والمواطنة، وإقصاء الرأي الآخر.
في الذاكرة الحية نماذج لتدخلات كارثية في العراق (2003) وأفغانستان (2001) وغيرهما، ساهمت في خلق جيل جديد من التكفيريين، أشد شراسة وإجراما من "القاعدة".
بالتزامن، تعكف دول عربية وغربية على استصدار قرار من مجلس الأمن، خلال الأيام المقبلة، لتوفير غطاء شرعي لشن غارات جوية واصطياد ما بات يسمى "المقاتلين الأجانب" في سورية والعراق. كما يعمل هؤلاء الحلفاء على بلورة تصور مشترك للتعامل مع "داعش" في سورية، حيث يرفض نظام منبوذ أي تدخلات خارجية من دون تنسيق مسبق. وحتى الآن، لم تصل الأطراف إلى معادلة حول مستقبل سورية؛ مع أو من دون بشار الأسد.
أوباما، بحسب معلومات توافرت لكاتبة المقال، سيستغل اجتماع الأمم المتحدة السنوي لاستضافة أعضاء مجلس الأمن الدائمين يوم 24 أيلول (سبتمر) الحالي، بمشاركة الأردن بصفته عضوا غير دائم في نادي الكبار. يعقب ذلك استصدار قرار حول التعامل مع تهديد "المقاتلين الأجانب" في سورية والعراق، والمقدر عددهم بين 20 ألفاً و30 ألفاً. وتاليا ستتسارع الأحداث وتتبلور الاستراتيجية والأدوار المرسومة للحلفاء.
لكن الحرب على "داعش" بدأت وستستعر، ما يفتح الباب أمام أسئلة مشروعة، منها ما يتعلق بمهمة الأردن في هذه الحملة، وكيف سيكون رد "داعش"، بخاصة إذا كان دور الأردن مكشوفا.
ما هي فرص المشاركة وتحدياتها؟ هل يتعامل الأردن مع العراق وسورية بذات المعيار في هذه الحملة؟ هل المشاركة ضرورية، وبأي ثمن سياسي واقتصادي وأمني؟ هل ستقضي هذه الحملة على الفكر الإرهابي، أم ستعزّزه في غياب استراتيجية سياسية دولية للتعامل مع ملفات المنطقة (الصراع العربي-الاسرائيلي، وسورية)؛ وأيضا فشل غالبية الأنظمة العربية في تحقيق أهداف الثورات والحراكات التي انطلقت منذ العام 2011؟
تقليص منسوب القلق الداخلي المشروع، يتطلب التعامل مع تلك التساؤلات بجرأة وخطاب سياسي واضح، بحيث لا تتعرض للخطر الجوانب الأمنية/ الاستخباراتية والعسكرية، وتكسب في الوقت ذاته تعاطف قطاعات واسعة بأن هذه معركة عربية وليست أميركية، لوقف طوفان "داعش" المطل برأسه على حدودنا الشمالية والشرقية.
بحسب الرواية الرسمية، فإن الأردن لن يشارك في الضربات الجوية، أو يرسل قوات برية؛ فالأمر متروك لأميركا، والبشمركة والجيش العراقي في عراق ما بعد نوري المالكي. ولدى الأميركيين قواعدهم الجوية في العراق والبحرين وقطر والسعودية وتركيا، حيث تنطلق هجمات جراحية بتكنولوجيا عسكرية متطورة وطائرات من دون طيار.
مواقف غالبية أعضاء التحالف تتفاوت فيما يتصل بمقارعة "داعش" على ساحة سورية. فالجيش السوري ما يزال يسيطر على مساحات واسعة، وبات اليوم يشن ضربات جوية على مناطق نفوذ التنظيم.
الأميركيون يريدون تدريب وتسليح ما يسمونها "المعارضة السورية المعتدلة" لبناء أذرع ضاربة في الداخل. لكن بحسب مسؤولين أردنيين، لا يوجد داخل سورية قوى معارضة سورية معتدلة لها صدقية وشرعية. والبديل الوحيد المحتمل هي "جبهة النصرة"، بينما القوة القادرة على خلافة "داعش" هي الجيش السوري.
التركيز الآن سيكون على ضرب "داعش" في العراق، بعد أن صبّت داخله غالبية جحافل "المقاتلين الأجانب" خلال الأشهر الماضية، تحت وطأة قصف سلاح الجو السوري لمناطق نفوذ التنظيم.
بحكم الموقع الجغرافي والخبرة الاستخباراتية والعلاقات العشائرية العابرة للحدود، سيقدّم الأردن إسنادا لوجستيا ومعلوماتيا، وسيكثف من تواصله مع عشائر "السُنّة" لتأليبها ضد التنظيم المسيطر هناك. وقد يطلب من المملكة فتح مراكزها الإقليمية المتخصصة في التدريب على مكافحة الارهاب لتدريب قوات عراقية خاصة، وأي قوات للمعارضة السورية المختارة. وبطبيعة الحال، سيتحرك الأردن لإنقاذ أي قائدي طائرات مقاتلة قد تسقط داخل حدود المملكة.
الأردن يجهد منذ أعوام في العمل على وقف تدفق مقاتلين أجانب عبر دول الجوار، ومكافحة تمويل "داعش" والمنظمات الإرهابية. ولا مانع من المساهمة في جهود إغاثة إنسانية ومشاريع إعادة الإعمار.
مكاسب المشاركة عديدة، وهي فرصة ذهبية نادرة يرسم الأردن من خلالها دورا قياديا جديدا كمصد للفكر المتطرف الذي يدمّر وسطية الدين، و"منطقة عازلة" أو "بوليصة تأمين" بين ما تبقى مما تسمى "قوى الاعتدال" مقابل التطرف والراديكالية. وقد توقف هذه المشاركة تراجع دور الأردن الإقليمي لأكثر من عقد بسبب انشغاله بمسرحية "سراب حل الدولتين"، وتبدل التحالفات ودخول تركيا وإيران مدعومتين بحلفاء محليين وإقليميين على ملفات المنطقة.
فالنظام السياسي الأردني يتمتع بشرعية دينية -من سبط النبي محمد صلى الله عليه وسلم- تؤهله للعب دور رئيس كبوتقة للاعتدال والتسامح والوسطية. والملك عبدالله الثاني عسكري التنشئة، ووارث الثورة العربية الكبرى بمقاصدها وقيمها.
كما أن الأردن يتغنّى بالاعتدال الديني والوسطية المجتمعية، مع أن المجتمع نحا في السنوات الأخيرة صوب الانغلاق والتشدد لظروف اقتصادية وسياسية وإقليمية، وازدواجية تعامل الغرب مع إسرائيل.
الانخراط في هكذا حملة يجب أن يجلب معه دعما ماليا "سخيا وخارقا" مستداما، يساعد على إنقاذ الوضع الاقتصادي الكارثي، والاستثمار في مشاريع تخلق فرص.
تفيد معطيات رسمية حصلت عليها كاتبة المقال بأن السعودية قررت قبل أيام صرف مليار دولار إضافي للملكة؛ نصفه لدعم الموازنة العامة، والنصف الآخر لتمويل أنشطة متعلقة بتدعيم الحملة على "داعش". لكن ذلك غير كاف، ولا بد من ضمان تدفق مليارات لسنوات مقبلة.
بالطبع هناك محاذير. فانخراط المملكة قد يفتح الباب أمام تسلل عناصر "داعش" ومن يحمل فكره في الداخل، بمن فيهم "خلايا نائمة" أو متأهبون للدفاع عما قد يرونه حربا أميركية على الإسلام. وقد يعرّضون الأردن وأهله لمخاطر إرهابية شبيهة بالتفجيرات الثلاثية ردا على دعم الأردن للحملة ضد "القاعدة". نصلي من أجل أن لا يقع ذلك. لكن في حال وقوعه، هل سيشّكل ذلك شرارة لتقسيم المجتمع المنقسم أصلا، أم سيتحد غالبية الأردنيين وراء قيادتهم كما حصل العام 2005؟
يقول مسؤول أردني: "من يهاجمنا سنهاجمه".
الأجهزة الأمنية تعمل ليل نهار ضمن استراتيجية استباقية لمراقبة جيوب التمدد الداعشي في الأردن، والحواضن الاجتماعية لهذا الفكر المتحجر، وتحديدا في الرصيفة؛ بؤرة تجمعهم الأولي، بسبب الكثافة السكانية وتداخل المكونات المجتمعية في ظل فقر وبطالة وتهميش وضعف الرقابة الرسمية على دور العبادة. وهناك تجمعات أخرى في الزرقاء والسلط ومعان وإربد.
وضع الأردن أخيرا استراتيجية للتعامل مع الفكر التكفيري من خلال المدارس والمساجد، ومحاورة الجهاديين داخل السجون، لمحاربة الفكر بالفكر، والاعتماد على فتاوى آباء روحيين للجهاديين التكفيريين أمثال المقدسي وأبو قتادة. لكن هل ستفلح الحكومة في دفع الإخوان المسلمين إلى إدانة جرائم "داعش" وأخواته علنا؟
المعركة ضد "داعش" بدأت. وهي معركتنا قبل أن تكون معركة الغرب. ودور الأردن محوري لإنجاح الحملة، وتشجيع الإدارة الأميركية على وضع تصورات سياسية صادقة لتسوية قضايا المنطقة العالقة.
محليا، نحتاج شفافية لإطلاع الناس على متطلبات التأقلم مع حرب واسعة ستستمر لسنوات. وتتطلب أيضا تسريع الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفوق ذلك ثورة في التربية والتعليم والثقافة، لدحر فكر "داعش" الذي يتغلغل في أحشاء مجتمعنا.