تماسك يؤكد ضرورة الإصلاح
لعقود طويلة، كان التنبؤ بانهيار الأردن ثابتا في طروحات أنظمة إقليمية وتابعيها ممن تقنعوا قومجية وثورجية زائفتين. وبعد تفجر ما سمي، أملا أوليا، بالربيع العربي، انضم إلى هؤلاء محللون وكتاب وحتى رسميون غربيون بنوا استنتاجاتهم على قراءات منقوصة للواقع الأردني.
لكن السنين أثبتت أن المملكة أكثر صلابة وتماسكا مما توقع كثيرون. صمد الأردن بلدا قادرا على معالجة مشاكله، بينما انهارت الأنظمة التي احترفت إخفاء قمعيتها خلف أقنعة القومجية الزائفة. وبمكان التحليلات التي تنبأت بانهيار البلد، تبرز الآن قراءات تبدي احترامها للتجربة الأردنية وعقلانية تعاملها مع عواصف السنوات الماضية.
لم تولد هذه العقلانية من ضغوطات اللحظة الإقليمية والمحلية الحرجة. فهي سمة ميّزت الأردن ورافقت مسيرته عبر جميع محطات تكوّن الدولة وتطورها. حكم هذا الإرث السياسي القيمي تعامل الأردن مع تحديات المرحلة فحماه ووضعه على مسار صحيح نحو التفاعل الإيجابي مع متطلبات زمن مختلف.
فالنظام الملكي لم يقم ولم يستمر بالاعتماد على القمع والقتل والتخويف. ولم يتبع الأردنيون العنف والدمارية في سعيهم لتحقيق مطالبهم السياسية أو الاقتصادية. ظلت ثقافة الاحترام والتواصل والحوار، حتى حين احتدم التوتر، الإطار الذي تعامل ضمنه الشعب ومؤسسات الحكم مع شتى القضايا.
وحين هبّت رياح التغيير على المنطقة، تفاعل معها الشعب بمنهجية استهدفت تحقيق الإصلاح ومحاربة الوهن والفساد والقصور وتحديث آليات العمل السياسي من دون أن تقوّض البلد وأمنه. طالب الأردنيون بالإصلاح ليعالج تشوهات الراهن وليحول دون تكرارها مستقبلا. لكنهم لم يغامروا بالبلد حتى لو لم تأتِ الإصلاحات بالسرعة والشمولية التي أرادوا.
وكذلك رأى جلالة الملك في عاصفة التغيير فرصة لتحقيق الإصلاح الذي يحتاجه الأردن، لا تهديدا للحكم. وجه مؤسسات الدولة إلى تبني مطالب الإصلاح واحترام حق المواطنين بالتعبير عنها. لكنه تحمل مسؤولياته الدستورية والوطنية بأن أدار وتيرة التغيير بما يضمن تحققه لَبِنات تضيف إلى بنيان الإنجاز، لا قفزة إلى مجهول.
إرث القمع والقهر جعل دولا في المنطقة وصلتها رياح التغيير برميل بارود جاهزا للانفجار. إرث الاحترام والعقلانية جعل الأردن قادرا على الإفادة من زخمها في تسريع العملية الإصلاحية والتحديثية.
لم تقطع هذه العملية المسافات الكافية نحو أهدافها بعد. وثمة ضرورة لإصلاحات أسرع وأكثر وأوسع سياسيا واقتصاديا وتشريعيا واجتماعيا، خصوصا فيما يتعلق بمحاربة الفساد، وتحقيق تكافؤ الفرص والمساواة، وتوسيع المشاركة السياسية.
لكنّ هناك اقتناعا يتنامى بأن التدرج في الإصلاح خير من التسرع في تبني ما لم يجهز الاستعداد المؤسساتي أو التنظيمي لتطبيقه، شرط وجود تحرك جدي لبناء هذه الجهوزية.
ولعلّ ما يلزم الآن هو خريطة طريق توضح بشكل أكثر تفصيلا الأهداف المنشودة للإصلاح وبرنامج تنفيذها. وهذا يستدعي جهدا ممنهجا لتقويم ما أنجز، ولتحقيق توافق وطني على الأهداف القادمة وخطوات تنفيذها. وستنتج خطوة كهذه توازنا يمنع تسرعا يوقع بالمجهول، أو تباطؤا يضيّع الفرص.
هذا التوازن في صلب الرؤية الإصلاحية التي أعلنها الملك، والتي يفوق التوافق المجتمعي عليها أي طرح آخر. فهو حذّر من تبعات التسرع. لكنه حذّر أيضا، قبل بدء هبوب عواصف التغيير في العام 2010 وبعده، من خطر التباطؤ في عملية الإصلاح.
وبالمحصلة، فإن ما أثبته الأردن من تماسك وصلابة سبب لتعزيز الثقة بالنهج الإصلاحي وحافز للمضي به إلى أمام، لا سبب للتراخي في تنفيذه. نجاح هذا النهج ضرورة وطنية. لكنه يتجاوز ذلك ليشكل حاجة إقليمية لأنموذج تغيير سياسي ناضج في منطقتنا التي أنهكها الفشل